Wednesday 30 May 2012

مأزق النظام





لم تخلُ رئاسة عزيز – منذ انتقاله المثير من مسئول عن حماية الرئيس الموريتاني الأكثر شرعية في تاريخ البلد إلى رئيس متفرد بالحكم – من مُصرح بالطعن في شرعيته ، أو ساكت على مضض ، حتى بعد التسوية السياسية المنبثقة عن اتفاق دكار وما أعقبها من انتخابات.


كانت تلك أمَّ لأزمات المتلاحقة التي جاءت تباعا لتضع نظام الرئيس الحديث العهد بشرعية (فيها ما يقال ) في مأزق حقيقي متعدد الأبعاد بات يهدد بقاءه بشكل جدي ويضعه على مفترق طرق خطر قد يكلفه كرسيه وسمعته إلى الأبد،أو كرسيه على الأقل.


أزمة الشرعية


ليس أمر الشرعية السياسية بالأمر الهيِّن الذي يمكن تجاوزه بسهولة ، مهما تم من محاولات لتمييعه أو القفز عليه ، وبدون وجود تلك الشرعية المريحة ستظل هناك حالة من الريبة والشك -إن لم يكن من الصراع العلني – بين الزعيم الذي يمارس السلطة والحكم وبين الشعب الذي هو ربها ومالكها.


من هنا يمكن القول: إن نظام عزيز ” خُلِق من ضعف ” شرعية سياسية من أول يوم، ثم عاد إلى القصر بعد طول صراع – معلوم الفصول – بطريقة ألطفُ ما توصف به أن بها شوائب وأمامها علامات استفهام.


ولم يقم الرجل رغم الظروف المواتية بالعمل على تدعيم جوانب الشرعية لديه ؛ من خلال إشراك واسع للقوى السياسية وأطياف المجتمع ، بل يمَّمَ سياسيا شطر الأحادية المفرطة ، واختار إداريا نهج المركزية القاتلة ، حتى غدا وزراؤه وكبار مسئوليه يُسرُّون لمقربيهم أنهم لا يستطيعون توقيع ورقة ، ويعلن هو في مجالسه ما يسره القوم”!.


وقد بات الناس يتناقلون قصصا وطرائف تجسد عقليته الغريبة ورؤيته المثيرة لإدارة الدولة،ويصفه البعض ساخرا ب ” السوبرمان” !


وهذا على مستواه كرئيس فهل عمل على تدعيم الشرعية من خلال المؤسسات الدستورية الأخرى التي ينهض عليها البناء الديمقراطي؟


لعل فرزا سريعا يظهر لنا الحالة التي آل إليها أمر المؤسسات الدستورية في عهد الجنرال الحديث العهد بالمدنية ، فقد تم ضرب المجلس الدستوري في صميم المصداقية المفترضة من خلال تقديمه جائزة لحليف سياسي تلاحقه سمعة سيئة.


كما قتلت محكمة العدل السامية في مهدها من خلال تعيين قائد الكتيبة البرلمانية التي شرعت الانقلاب على الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله عليها،وانتهت مأمورية البرلمان وبات مشكوكا في شرعيته.

الدستور نفسه لم يسلم من بعض العبث؛فقد تم تعديله من خلال البرلمان المطعون في شرعيته. وجاءت إقالة رئيس المحكمة العليا لتتوج مسارا طويلا من تدجين القضاء والتدخل في صلاحياته،مما وصل أحيانا إلى فصل القضاة الذين يحكمون بغير ما يهوى الرئيس الأخطبوط (حالة القاضي محمد الأمين ولد المختار ).


فلم يُبقِ ولم يَذر!!..


وهكذا استحكمت حلقات أزمة الشرعية وتبعتها بقية الأزمات.


أزمة المصداقية


فتحت أزمة الشرعية التي طوقت نظام الرئيس (الجنرال) الباب واسعا أمام جملة من الأزمات،أهمها أزمة المصداقية التي انتصبت على مدامك من إفلاس الشعارات التي رفعها الرجل أثناء فترة الانتخابات وبعدها،مثل شعار:”رئيس الفقراء” الذي تكشف عن خطة للثراء الفاحش تحول بها الرجل بين عشية وضحاها – كما يقول مطلعون – إلى أحد أثرى أغنياء البلد،حيث يملك أسراب السيارات بمختلف أنواعها وأحجامها وهي تغدو وتروح بعد أن ضمن لها التأجير على مزاجه في مؤسسات وشركات الدولة ، وتحظى مؤسساته التي يديرها مقربوه بالعقود الضخمة المربحة ، ويحتكر بعض المجالات التجارية التي يحتاج الناس حصول المنافسة فيها – مع طبيعتها الإنسانية أحيانا – مثل المستشفيات وخاصة مستشفيات الكلى؛حتى لا تنافس عيادة خاصة تعود ملكيتها لشخص من دائرته الضيقة.


ومع انشغال”رئيس الفقراء” بالعمل على جعل مسافات فلكية بينه وبين مرؤوسيه، فقد سُلِّط عليهم في عهده ارتفاع الأسعار الجنوني،حيث ارتفع الوقود الذي يلقي بظلاله على بقية البضائع عشرات المرات ، فاشتعلت الأسعار وعاش الفقراء – وهم أغلبية الشعب – مستوى من البؤس لا عهد لهم به رغم ما عرفوه في السنين الخالية . وجاء تدخل الدولة خاصة في هذه السنة الشهباء باهتا بل وبائسا رغم ما رصد له من أموال في خطة ” أمل 2012 (التي انقطع منها الأمل ) لدى المعنيين.


أما محاربة الفساد فقد أصبحت نكتة يتندر بها باعة الهواتف في”نقطة ساخنة” في ضوء ما سبق،وغيره كثير.


ولم يتم توزيع شيء من العدالة الموجودة كما وعدنا الرئيس في خطابه السيار (أو السياريِّ بالنسبة)،إلا إذا كان يقصد شيئا وفهم الناس شيئا آخر،وما عاد الأمر يحتاج إلى حديث،وقديما قال العلامة محمد بن مالك رحمه الله:


وحذف ما يعلم جائز كما ### تقول: زيد بعد:من عندكما؟


إن الذي لا يماري الناس في تحققه وبروزه في عهد عزيز هو عودة الحزب الجمهوري بأساليبه وطرائق عمله بعد أن مله الشعب وأثبت عدم قابليته للاستمرار ، وتفريخ المبادرات والأحزاب الداعمة للرئيس ، والخطط الأمنية الخرقاء لتفكيك المنظمات المهنية والمعارضة التي أتت بأكثر من فضيحة ، لعل أشهرها فضيحة القصر التي خلدها الشعر– ولأمر ما كرهه عزيز- !


وإن مما عاد بدون تستر ولا مواربة تلك الزبونية في القبول والرفض والإقالة والتعيين،وهكذا فقد الوطن المنكوب مئات الأطر من ذوي الكفاءات المحترمة ليحل محلها أناس يرضى عنهم رأس النظام ، ولا صوت يعلو فوق صوت المحسوبية في عهده الميمون.


وأي شهادة أهم في سياق القبول والرفض مما تناقلته المواقع الإلكترونية أمس عن تبرير عزيز نفسه لرفض قناة شنقيط حيث قال ببساطة ” إنه كانت لديه معلومات تربطها بالإسلاميين ” معتهدا بأنه لن تنالها أي مضايقة ما دامت معلومات فخامته عارية عن الصحة ؛ واضعا بهذا التصريح نهاية لجدل عريض حول مستوى الشفافية الحاصلة في تنقيط المشاريع الإعلامية التي تقدمت بها المؤسسات وكان الرفض من نصيب أكثرها خبرة ومهنية.


وبهذا– وهو غيض من فيض– يكون عزيز ونظامه باتا يعيشان أزمة مصداقية حادة،وهو ما كان من غير مُستطاعه الخروج منه بغير حوار شامل وجريء مع قوى المعارضة موحدةً والخروج بقرارات اتفاقية كبيرة والدخول في شراكة وطنية تعيد له جزءا مما فقد من الشرعية والمصداقية ، وهو ما فشل فيه أيضا ؛ ليجد نفسه في مواجهة آخر حلقات المأزق الكبير.


أزمة البقاء


فشل عزيز في عملية التدارك وتصحيح المسار وهاهو اليوم يواجه نداءات متكررة بالرحيل،سمعها لأول مرة من عشرات الآلاف،وبات يسمعها كل يوم.


وهو استحقاق جدي وتاريخي بكل المعايير ، فقد علمتنا تجارب الثورات:أنه لم يستقم حال أي من الرؤساء الذين رفعت في وجوههم هذه الكلمة الحاسمة(ارحل )، -بعد أن رفعت- فهم ما بين من رحِّل على كره، وبين من كان خيرا له أن يبادر إلى الرحيل،غارقا في أوحال الدمار منبوذا من العالم.


وها قد رفعت هذه العبارة أمام عزيز ، وليس هو في وضع يحسد عليه؛فلا هو بنى شرعية تحميه،ولا مصداقية تسعفه؛لا في الداخل ولا في الخارج.


ولعل الرجل ظن في البداية أن في الأمر شيئا من المزح أو المزايدة،ولكن يبدو أن الغشاوة قد ارتفعت عن بصره أخيرا بعدما أحس بالخطر،حيث رأى آلاف الشباب المثقف يصلون ليلهم بنهارهم تفكيرا وتخطيطا لإزاحته بطريقة سلمية حضارية،ورأى الأحزاب السياسية الواسعة الانتشار وقد شمرت عن سواعد الجد وآلت على نفسها أن ترحله ، وباشرت خطة التنفيذ،ورأى أصحاب المظالم والعاطلين عن العمل من أصحاب الشهادات،ورأى العمال والنقابات،والطلاب، وأطياف الشعب المستاء،تنتفض لأول مرة ضد الجوع ، والعطش،والفقر، والتهميش،على طول البلاد وعرضها،وما زال الأمر يكبر ويتفاقم.


إنها إرادة الحياة تدب في أوصال المجتمع و …..


إذا الشعب يوما أراد الحياة****فلا بد أن يستجيب القدر


ولا بد لليل أن ينجلي*****ولا بد للقيد أن ينكسر


تلك سنة التغيير!


وصلت الرسالة،وأصبح الرجل يخوض معركة من أجل البقاء ، يطبعها الارتباك والتخبط،يتخذ قرارات تضره أكثر مما تنفعه وتخدم خصومه أكثر مما تخدمه.


لقد ضرب على مختلف الأوتار:وتر القبيلة،والجهة،والفئة الاجتماعية،والعرق، ومارس:سياسة التفريق،ونصب الفخاخ للقوى السياسية،ولكن يبدو أن ذالك لن ينفعه ،كما لن ينفعه القمع وممارسة التعذيب ضد المتظاهرين،فقد اتخذ الناس”قرارا بقتل الخوف”وهذا زمان جديد،ولعل الشرطة تخبره أن من يعتقلون في المظاهرات هم أول من يعود إلى المظاهرات فيعتقل من جديد في”سيزيفية”ستهد صبر النظام مع الوقت،فيكون أمام خيارين– خاصة مع التصعيد المتوقع والعمل النوعي المرتقب من قوى الثورة– سيكون كل منهما كافيا لوضع حد لنظامه المأزوم.



أقــــلام حرة




Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا

No comments:

Post a Comment