Thursday 27 September 2012

لعق الجراح.. | ‫#موريتانيا أخبار


الجمعة 28 أيلول (سبتمبر) 2012









دكتور/محمد إسحاق الكنتي

يقول أرسطو:” الإنسان حيوان سياسي.”


لكن، في زمننا هذا، لم يعد الناس يقنعون بأقل من الصوت والصورة، لذلك تترجم “ناشيونل جيوغرافيك” هذا القول حين تتتبع الحيوانات في صراعها العنيف من أجل البقاء…


كان مهيبا، يسير بخطى واثقة، كأنما يجرب مدى صلابة الأرض، وقدرتها على تحمل أرطال شحمه ولحمه… فجأة ظهر القطيع. أحاط به من كل جانب. ركز قوائمه في الأرض، وانتصب مثل التلة. كان ينتقي من القطيع أكثره جرأة فيعالجه بضربة من قرنه، أو ركلة برجله.. غيّر القطيع استراتيجيات كره وفره مرات عديدة، لكن الربوة ظلت ثابتة… بعد فشل الحملة تلو الحملة تفرق القطيع، يلعق قادته جراحهم العميقة، ويبحث أفراده عن طرائد بحجمهم…


تندمل جراح الحيوان حين يلعقها، لكن الحيوان السياسي، حين يلعق جراحه ينكؤها فتزداد التهابا، ومن فرط الألم يرتاب في من سببها له؛ أهو العدو البعيد، أم الصديق القريب، أم الجار الجنب، أم الصاحب بالجنب! تسبب الجراح الحمى، فترتفع الحرارة، يفقد الجريح الوعي ليبدأ الهذيان…


في “حوار بلا أسوار” كان الشيخ وقورا كعادته، لكنه كان أكثر حذرا، وأقل حماسة مثل القادة الناجين من معارك خاسرة. أكسبتهم الحرب خبرة عميقة، لكنها خلفت لهم مرارة الهزيمة، وترددا يجعلهم عاجزين عن الإقدام على معارك جديدة، فيصبحون حمائم سلام يسألون الله السلامة، ويرضون من الغنيمة بالإياب…


ملّ الشيخ الأسوار؛ أسوار القصر الرمادي، وأسوار الفضاء الثقافي، فقرر السياحة في فضاء مفتوح، مثل صحراء الملثمين، بعيدا عن التجمع، ودعاوى الإصلاح، وفخاخ التنمية… كان المكان فسيحا. يلتفت الشيخ عن يمينه فلا يجد رئيس الحزب، الذي يحصي عليه أنفاسه، ولم يتلوث المكان بالهتافات…


قرر الشيخ أن يعترف… كان صادقا في كل ما يقول. لكن، بدا من صوته أنه يبذل مجهودا خارقا لجعل حديثه مقنعا.. فقد قال أمورا، قبل هذا، يصعب على السامع، المعافى من الزهايمر، الجمع بينها وبين حديثه هذا الممتع، الشيق، مثل أشعار العذريين…


لكن الشيخ فقيه “مشتهد” (في نطق أهل المغرب الأقصى)، وكم من مجتهد أفتى مقلدوه بأحد قوليْه. لكن هؤلاء المقلدين، الذين ينقلبون مريدين (بالمعنى المتداول على الضفتين) هم مصدر إزعاج الشيخ؛ فقد أفقدوه بعض رصيده عند الموريتانيين حين وضعوا عليه يافطتهم، وأربوا في فتاويه بالفضل والنسيئة… صحيح أن منهج منظمة القرضاوي وفّر له فضاءً افتراضيا تمكن المناورة فيه دون ترك آثار دالة. فالفتاوى الشفوية، وفقه الفضائيات، تمنح “الشيخ السياسي” رخصة بأبسط الحيل، وأظهرها، تمكنه من دعم موقف سياسي، ومهاجمة آخر مستثمرا عمامته، التي لا تختلف في شيء عن عمامة أبي أحيحة حسب وصف الشيخ لعمامة أجل وأعظم… لكن القناة الفضائية لا تؤتمن. فقد تطبع “فقه العصر” في كتاب ليكتشف الباحثون ما ذهل عنه المشاهدون، فيختفي الكتاب من السوق!


أراد الشيخ فضاء فسيحا، مثل صعيد عرفة، ومئات الآلاف من المستمعين ليعلن براءته إلى الله من “تواصل”، كما برء ماركس من قبل، إلى ضميره والإنسانية، من الماركسيين، وكما برء حسن البنا رحمه الله من الإخوان المسلمين، في بيانه المعنون: “ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين”. يحق للبنا رحمه الله أن يشطب أعضاء الجهاز الخاص من منظمته، لكن هل يحق له إخراجهم من الإسلام! صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال للذي سأله النصح: “لا تغضب!”


لكن تواصل غضبوا…


رحل المكتب التنفيذي، على بكرة أبيه في سنة المحْل هذه، ليحل ضيفا على التلفزة، التي اكتشف أخيرا أنها وطنية، ولسان حاله يقول:


جيتك من ساحل* راحلْ وانويقاتِ حيل ميلْ


يا اخيار اخيار أهل الساحلْ وانقظهم حران أعيلْ تركوا الشيخ في “السافي”، تجذبهم أضواء التلفزة، وزخرف المكان، وليس من رأى كمن سمع…


رحل الحزب مساء (لَرَبْعَ الكحلَه) تطبيقا لسلفيته، التي أعلن عنها بمناسبة حرق كتب الفقه. أخذ القوم منازلهم، وابتدأ الرئيس بشكر مضيفيه على هذه “السانحة”، لينتقل سريعا إلى تعداد مثالبهم! كان الرئيس واثقا كالعادة، يملأ كرسيه، حسب تعبير المشارقة، أعد للحوار، الذي طالما نهى عنه ونأى، ما استطاع من قوة.. نثر كنانته بين يديه؛ وثائق، وأوراق، وقلم حبر هذه المرة. استعمل سلاح الإشارة، وطبقات الصوت، والكر والفر في الكرسي الوثير، الذي يذكر بكرسي آخر تتوق النفس إليه ويقصر عن إدراكه المتناول، كل ذلك لتعزيز خطاب وجد الرئيس عنتا، أيما عنت، في إقناع نفسه به. ولم ينس الرئيس نصائح العلاقات العامة، فبدا بشوشا، يبتسم عند كل “سانحة”، ويتكلف المزاح. أما أعضاء المكتب التنفيذي، أعمدة الحزب الرخامية، فقد بدا أن رئيس الحزب، ذي المرجعية الإسلامية، جلبهم لتقديم أمثلة “جامدة” (باللهجة المصرية) على تنوع خلق الله… وابتدا الحوار…


استخدم الرئيس، لتفنيد الأرقام، كل المناهج؛ من القياس، إلى الاستنباط، إلى التأويل… لكن أحد محاوريه عاجله بأرقام سكت عنها، لا نسيانا، ولكن رحمة بالمشاهدين.. سكت الرئيس عن الستة رهط الذين أرادوا إفساد لقاء الشعب، وسكت أكثر عن الخمسين ومائة (150) الذين تظاهروا لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كاد يكظم غيظه حين لاحظ محاوره أن قادة الحزب، الذين جاؤوا الليلة يآزرون رئيسهم، قد تغيبوا كلهم عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم!


لكن العتب على المحاور؛ فقد كلف القوم ما لا يطيقون. فإذا كانوا عاجزين، أو خائفين، أو هما معا، عن ذكر اسم أمريكا في بيان نشر على موقع الحزب الرسمي يندد، بعبارات لطيفة، بفعل اعترفت به أمريكا، واعتذر عنه رئيسها، فكيف نطالب قادتهم بالتظاهر أمام السفارة الأمريكية، أو الفرنسية!


بينما كان الرئيس يحصي في نفسه خسائر عاصفة الأرقام، عالجه محاور آخر بسؤال طالما سأل الله العافية منه، والثبات عند الامتحان به، والتوفيق في عدم الإجابة عليه.. سؤال لن يطرحه إلا أصحاب الضغينة على الحزب المتربصين بشعبيته العارمة.. سؤال من أين لكم كل هذا المال؟!


لم يستطع الرئيس كظم غيظه هذه المرة، فسأل السائل عن مصادر أخباره وهو يعلم أن القانون يسمح للصحفي بحماية مصادره، إلا في حالات ليست هذه إحداها، إلا أنه أراد استفزاز السائل، حتى لا يتمادى، أو يغري غيره بالخوض في المال الخاص. أنكر الرئيس (طب الإصلاحيين) الذي يعرفه أهل نواكشوط، كما يعرفون (فراج الديك) و (بيت كسكس)، وبذلك أغلقت الخزنة دون أن يعرف المشاهد مصرف الصدقات، ولا مصدر الهبات!


لكن الرئيس سيهتم، بدل ذلك بالمال الخاص لرئيس الدولة، والمال العام، مطالبا بإحصاء الأول، ومعرفة أوجه صرف الثاني، الذي يبدد في ظروف غامضة! لكن رغم انعدام الشفافية في طرق صرف المال العام، وغموض دواليب تسيير الدولة عموما، استطاع الرئيس الحصول على قائمة تفصيلية بأسماء أولئك الذين يتلاعبون بالمال العام.. لكنه لن يذكر أسماء، احتراما لمسطرة الاتهام السياسي، لكنه سيصف الأشخاص وصفا دقيقا، مع ذكر مجالات أنشطتهم، حتى يعرفهم الناس كما يعرفون أبناءهم.. سبحانك…


وصل الحوار بيت القصيد حين أعلن تواصل، على لسان رئيسه، وبالموافقة الضمنية من مكتبه التنفيذي (السكوت علامة الرضى) براءته من الشيخ، الذي أصبح فوق التجاذبات السياسية بعد أن كان منغمسا فيها، وأكبر من تواصل الذي كان أحد مشاريعه المدرة للدخل! صحيح أن الطلاق في المجتمع الموريتاني أمر شائع، يستقبل بالزغاريد، لكن التساؤل عن أسبابه وحقيقته (تبراك الشهود) تشغل الناس بعض الوقت، خاصة إذا كانت الألفاظ غامضة.. فقد لمح الشيخ إلى مغاضبة (فقايع)، وصرح الرئيس بأنه يعنيهم. يزيد الأمر غموضا أن الألفاظ التي يقع بها الطلاق، في الفقه المالكي (إذا كان تواصل يعتد به؟) لا تكاد تنحصر!


وتزداد الريبة حين “يخطب” رئيس الحزب ود شيخ طالما تجاهله تواصل، ومنع أشرطته في مساجده، فهل هي رسالة إلى الشيخ الذي نشز على الحزب باعتراف رئيسه، بأن الطلقة بائنة، أم أن سبب الطلاق أصلا محاولة الحزب الجمع بين الشيخين، فما يصيب أفراد الحزب قد ينتقل إلى مؤسسته… على كل حال ستنقضي القروء الثلاثة بحلول الانتخابات…


كان واصل بن عطاء رجلا فصيحا، ألثغ، فكان يجتهد في إخراج الراء من خطبه، فيسمي البر حنطة. وكان رئيس الحزب سياسيا محنكا فأخرج مادة (ر ح ل) من حواره الهادئ غالبا، المتشنج أحيانا. لقد تدرب على ذلك الوقت الكافي، حين تخلف عن موعده الأول. فكانت الرسالة واضحة.. تائبون، راحلون عن ديار الربيع، ديار القوم الذين ظلموا، إلى مرابع الخريف حيث الماء والخضراء والقول الحسن… ودليلا على حسن النية قدمنا بين أيدينا هدية، جئنا شيبا وشبابا بالصوت والصورة؛ صوت الخلفية الإسلامية في الإذاعة، والمشهد العلماني في التلفزيون…


اعتقد الرئيس، عند نهاية البرنامج، أن الحزب يستحق تعويضا عن قبوله الحوار بعد ممناعة، فقرر أن يبث إعلانا انتخابيا بالمجان، فاستنجد بالموريتانيين..


“إني أغرق، أغرق…”


لكنه يخشى أن تأتيه رسالة عبر الصندوق الانتخابي يقول له الموريتانيون فيها…


ستفتش عنها(السلطة) يا ولدي في كل مكان وستسأل عنها موج البحر


وتسأل فيروز الشطآن


وتجوب بحارا (من الرمال) وبحارا وتفيض دموعك أنهارا وأنهارا


وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان…


جهة البحر*


عودة للصفحة الرئيسية




مصدر




Filed under: موريتانيا Tagged: موريتانيا

No comments:

Post a Comment