Wednesday 31 October 2012

بلاد شنقيط: منارة العلم وسراج العلماء | ‫#موريتانيا أخبار


الأربعاء 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2012









الباحث/عبد الله محمد أعمر

تداولت بعض المواقع الإلكترونية الموريتانية نقلا عن ملتقى أهل الحديث مقالا يدَّعي صاحبه أنه عاش في بلاد شنقيط كطالب علم، وفاجأه انحطاط المستوى الأخلاقي والمعرفي والثقافي لهذا البلد العريق، والذي نسب الكاتب الزخم الإعلامي الذي نالته بلاد شنقيط من كونها منارة للعلم والمعرفة، ومصباحا ينير السالكين دروب الهدى؛ إلى التفاخر والكذب والزور الذي دأب عليه الشناقطة وسوقوا به أنفسهم للعالم الإسلامي والعربي. وعلى الرغم من أن الكاتب يخفي نفسه، ويكتفي بالملاحظات العابرة إلا أن الموريتاني يجد في نفسه غضاضة من هول ما سمع، وحنقا من الادعاءات الباطلة التي دونها، وخاصة عندما تناول رمز المعرفة الشنقيطية (المحظرة)، واتهم علماءنا وشيوخنا بالكذب والزور والبهتان، وهو أمر يستغرب من طالب العلم الشرعي كونه يسوق التحامل على العلماء وشيوخ المحاظر، ولا يجد المتلقي لهذا التحامل أدنى سبب؛ إلا أن يكون الحسد والبغض حاديا له لمثل هذه الجرأة والتقول.


تحدث الكاتب عن المستوى السطحي الذي تنتهجه المحاظر في التعليم، وقلة المصادر والمراجع التي يعتمدها الدرس المحظري الشنقيطي، وهو ادعاء ترده القرينة، ويرفضه لسان الحال، حيث أن العلماء الشناقطة لا يجدون مؤلفا مفيدا إلا أضافوه إلى تدريسهم، بل وينظمونه رجزا يتداوله طلاب العلم. وطالب العلم لا يكتفي فقط بما قدم له الأستاذ بل ينظر في جميع الشروح المتداولة في الفن الذي يدرسه، إضافة إلى حفظه الأنظام التي ابتدعتها المحظرة تسهيلا للحفظ، وترسيخا للمعلومة، متمثلين قول الشافعي رحمه الله:


علمي معي أينما يممت ينفعــــــــــني صدري وعاء له لا بطن صنـــــــدوق


إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق


وإذا ما نظرنا إلى خريجي المحاظر وقارناهم بخريجي المدارس النظامية لم تظهر لنا الصورة التي ادعى الكاتب من عجز عن التعبير، وركاكة في اللغة، بل على العكس نجد عباراتهم براقة، وألفاظهم مكتنزة، مع إحكام بلاغي قل نظيره، كما أن أحدهم لا يحتاج إلى التحضير الذي هو ديدن الدارسين في كل فن أمام أي إلقاء أو اختبار، ففي كل وقت تجدهم مستعدين للامتحان، وفي أي زمان ومكان.


وتمتاز المحظرة الموريتانية بأنها لا زالت تحتوي جل ما أنتجته الثقافة العربية القديمة، يتداولها الأجيال من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر، حتى أصبحت الموسوعية من خصائصهم، والتبحر في العلم أساسا منهجيا في التدريس.


ولتنظر في علماء العصر اليوم (خريجي المحاظر منهم) تجد أنهم دوخوا الدنيا وشغلوا العالم بفعل ما لهم من قدرة وتمكن في العلم والتدريس والدعوة والانفتاح على علوم العصر، أما أن تبحث عن نوازلَ حلت ببلاد الغرب بين ربى المحاظر المعزولة عن العالم فهذا ليس من الإنصاف، وأنت إن كنت درست حقا في المحاظر تعرف كم هم عازفون عن الدنيا بعيدين عن مشاغلها، همهم الوحيد هو الدراسة والتدريس، تكاد تجد الشيخ المحظري روتينيا في كل ما يقوم به على مدى السنين، فمن البيت إلى المسجد إلى المحظرة، أو بعض زيارات الأقرباء، لا لقاءات ولا اجتماعات ولا ندوات إلا عن طريق ذلك الصرح العلمي الفريد (المحظرة).


وما دوخ الدنيا من شعراء مفلقين إلا شعراء شنقيط، الذين نالوا إعجاب الذوق العربي في كل زمان ومكان، حتى أطلقت عليهم تسمية بلد المليون شاعر، استنادا إلى تذوقهم الشعر وقرضه، ومعرفتهم بمكامن الحسن فيه.


أما الجانب الأخلاقي الذي اتهمت الموريتاني فيه وأهدرت قيمه وأخلاقه، وجعلت منه بخيلا بذيئا سيء المعاملة والأخلاق، فقد جانبت فيه الصواب، واتخذت طريق الكذب والزور مطية من أجل وصمه بالعار، فالموريتاني بطبعه كريم الأخلاق حسن المعاملة، يرحب بالجميع لا فرق في ذلك بين العربي والعجمي، ويقدر طالب العلم أيما تقدير، يتقاسم معك رغيفه، وينزلك عرينه، ويلقاك ببشاشة وترحاب، ويخفف عنك هم الغربة والبعد عن الأوطان حتى تظن نفسك بين الإخوة والأحباب، وإن أصابك مكروه سارع بمد يد العون لك، وما استقوا ذلك إلا من تعليمات الدين الإسلامي السمحة، امتثالا لقول الصادق المصدوق: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.


وشعر الطائي في الكرم الذي أعتقد أنك درسته في المحظرة الموريتانية هو المثل الأعلى لساكني هذا المنكب البرزخي، والمشكل للمرجع الأخلاقي عندهم.


أما الجانب الاجتماعي فلا أعتقد أن روح الطبقية الذي تتحدث عنه خاصا ببلاد شنقيط، ففي كل العالم العربي توجد مثل هذه الطبقيات، وعلى أساس مادي يقدم الفقير على الغني، وما أظن أنك شاهدت في المحظرة الموريتانية وأنت تدرس بين ظهرانيهم تمييزا بين العجم القادمين من إفريقيا ومن أوربا، والعرب القادمين من الخليج أو الشرق الأوسط أو المغرب العربي، الكل أمام الشيخ سواسية، ولكل منهم عنايته من طرف شيخ المحظرة، بل إنه يوصي بعض الطلاب المتمكنين من ملازمتهم وتوضيح المعالم لهم، وشرح الاستشكالات وتكرار الدروس لهم.


وأخيرا وليس آخرا مهما علت صيحات المتهورين والمنادين بسقوط هذا الإشعاع الثقافي الذي تعتبر بلاد شنقيط رائدة له، فإن بلاد شنقيط ستبقى بفعل علمائها وشيوخ محاظرها نبراسا يهتدي به في ظلمات الجهل بالدين الإسلامي ولغته العربية الفصحى، لا تبارى في ذلك من كل أقطار الأرض جمعاء، كان علماؤها قديما يجوبون الآفاق العربية والإسلامية دعاة مبينين للناس طرق الهدى في رحلاتهم لأداء مناسك الحج، والتاريخ يشهد على ذلك، وصورهم الشاعر الموريتاني بقوله:


قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة بها نبين دين الله تبيانا.


وهاهم اليوم لا يزالون بفعل ما تقدمه المحظرة من معارف، ومن كثرة ما يتدفق عليها من كل أقطار العالم من طلاب العلم الشرعي تشكل وجهة للعلم، ومحط رحال المتعطشين له الباحثين عن ينابيعه.


عودة للصفحة الرئيسية




المصدر




Filed under: موريتانيا Tagged: موريتانيا

No comments:

Post a Comment