Monday 30 July 2012

‫#موريتانيا‬‏ الرحيل: لماذا؟ وكيف؟ وإلى أين؟





3 . إلى أين؟


وأرى موازيـن الرجال كثيـرة**وأجل ما وزن الرجال المنصب


فاختر لنفسك أي صوب تنتحي** وبأي مضطرَب تسير وتذهب


ما الحكـم يرفــع للبلاد بناءهــا** كالحكم يهدم ركنها ويخــرب


أحمد محرم


الرائد لا يكذب أهله


عندما كنا نرحل “كما كان آباؤنا يرحلون” كان كل حديث عن “الرحيل” مقيدا ومشروطا بإجراء أساسي يحكم كل “رحيل” ألا وهو الريادة (وهي الاستطلاع من أجل تأمين أفضلية دار القرار الموعودة على دار المُقام).. و”الرائد لا يكذب أهله”. فما هي المهمة التي يقوم بها الرائد؟ وكم هي أساسية في حياة الحي! ما دام “الرحيل” ليس هدفا في حد ذاته، وإنما الهدف ـ حتى في حياة البدو ـ هو الانتقال من دار مَحْل إلى دار خِصْب. ولكي يتحقق ذلك لا بد من تجريد وتسيير رائد (أو رواد) يستجلي ويختبر (يُبَوّهُ) الأرجاء المتاحة بحثا عن مراعي أجود ودار أفضل، ويأتي بالخبر اليقين حتى يكون الحي على بصيرة من أمره، ويكون رحيله عن بصيرة ودراية، وبأنه ينتقل من دار دون إلى دار نعيم وقرار.. ولو إلى حين.


والرواد طبقات. فمنهم:


ـ ذلك الذي لم ينظر إلى الأرض، ولم ير مرعى في السماء!


ـ وذاك الذي نظر إلى الأرض ولكنه “لم ير العجلات”!


ـ وآخر لم يتبين حين رأى السراب فظنه ماء، وحمل أهله على الرحيل إلى قاع صفصف.. ولكن الحكاية تقول إنهم لمّا كادوا يهلكون من العطش، وكانوا صالحين، أرسل الله عليهم السماء مدرارا!


ـ ومنهم من لا يكذب أهله كالمختار ولد داداه وأحمد ولد بوسيف وصحبهما…!


وفي دنيا السياسة المعاصرة، يضع القادة والزعماء (الرواد) رؤاهم ويحددون مشاريع المجتمعات التي يدعون إلى إقامتها، والطرق التي سيتبعونها لتحقيق رؤاهم، ويتجهون إلى المجتمع بما لديهم (روسو ومونتسكيو وجورج واشنطون والكواكبي والأفغاني وماركس وهتلر وعبد الناصر والخميني). وتبدأ مرحلة التمحيص والاختبار والاختيار، وعندما يمحص المجتمع ويختبر ويختار البرنامج الذي يجد فيه ذاته، والذي يعبر بصدق عن مصالحه ويضمن تحقيق المهمات التي تتطلبها مراحل تطوره التاريخي، وقلما يخطئ حدسه أو يزيغ إحساسه المرهف.. يومئذ تصبح الآراء الصحيحة التي يتبناها المجتمع قوة مادية لا تقهر! سواء أتم ذلك عن طريق تربية وتعليم وتنظيم تتم على طول الأمد كما جرى في فرنسا وروسيا وإيران، أم عن طريق انفجار اجتماعي مفاجئ مثلما حدث في مصر وتونس!


أما الوصفات الخاطئة التي لا تلائم الحلولُ التي تقدمها مشكلات التطور الاجتماعي المعيش.. فمنها ما لا يجد صدى في المجتمع فيصبح هو وأصحابه نسيا منسيا؛ ومنها ما ينتشر في ظروف معيّنة ويزدهر ثم يكون وبالا على شعبه وعلى البشرية جمعاء كالنازية والفاشية.


من الدولة إلى الخيمة والكوخ


عندما رأت الدولة الموريتانية النور في الثامن والعشرين نوفمبر 1960، كان سكانها “شعوبا وقبائل” أغلبهم بدو رحل. ومع ذلك فقد كان العصر الذي شهد ذلك الحدث عصر تقدم ورقي وحضارة وتحضر. وكان القائمون على تلك الدولة الوليدة يعون ذلك، ويعملون على أن يكون الكيان الذي يبنونه كيانا عصريا وأصيلا في آن، لذلك مزجوا بين “الجمهورية” و”الإسلامية” صفتين لدولة “موريتانيا الجديدة”. وقد تحقق لهم ما أرادوا. وكان عصرهم وشعبهم عونا وهاديا على تحقيق حلمهم. وسرعان ما بدأت تتلاشى القبلية والجهوية والعنصرية وغيرها من صور العصبية الجاهلية التي كانت سائدة.. وهبت رياح المساواة والتآخي والتمدن، وصار الانتماء للدولة واقعا ملموسا.


فالرئيس المختار ولد داداه الذي ولد “تحت خيمة مضروبة على الكثيب” وحفظ القرآن، واشترك في القوافل، ورعى الغنم، وأحضر الماء، واحتطب، وحلب، و”كزّ التود” و”ونكل” الخ.. (صفحات من 39 إلى 48 من كتاب موريتانيا على درب التحديات) وظّف هو وصحبه جميع معارفهم وثقافة وتراث شعبهم، والعلوم العصرية التي تعلموها من الغرب في سبيل بناء “الدولة ـ الأمة الموريتانية” التي آمنوا بها وأخلصوا لها: “20 مايو 1957 … لقد كان هذا التاريخ بداية فترة غير عادية لدي، لقد كان علي خلال العشرين سنة التالية أن أقود وأنسق الجهود الرامية إلى إنشاء الدولة ـ الأمة الموريتانية وإرساء دعائمها. نعم أقول إنني كنت أقود وأنسق الجهود … وهذا يعني، كملاحظة أولى، أن بناء وطني لم يكن عملا شخصيا فقط، لقد كان ـ على العكس من ذلك تماما ـ عملا جماعيا أدته الأغلبية العظمى من الشعب الموريتاني، وشاركت فيه مختلف الفرق القيادية التي تعاقبت على تولي السلطة معي خلال عقدين من الزمن … وقد كانت هذه الفترة فترة تطلع وحماس لأنها فترة بناء الوطن الموريتاني، وهي في الوقت ذاته فترة المتاعب بالنظر إلى جسامة الصعوبات التي تكتنف مثل هذا المشروع وتعددها” (موريتانيا على درب التحديات ص 150).


وعلى الرغم من أنهم كسبوا رهان تحديات “الوجود، والهوية، والديمقراطية” حسب مقاييس عصرهم.. فقد جاء البيان رقم 1 لينهي المسار الوطني الحضاري الذي أسسوه، ويُبْدِئ مسارا معاكسا توفرت جميع شروطه الداخلية والخارجية يومئذ مع كامل الأسى والأسف.


لقد بدأ النكوص من الدولة إلى الخيمة والكوخ إذن: نبشت الأسماء الغابرة ذات البعد العصبي كالترارزة، البراكنة، غورغول العصابة الحوض تكانت آدرار الخ.. ونهب المال العام وسادت “الكزرة” وانهارت القيم والمؤسسات.. بل تم التراجع عن روح الجمهورية فألغي التعليم الموحد، واعتمد محله رسميا التعليم المنفصل سيئ الصيت والنتيجة!


ومن طرائف ذلك المسار أن أحدهم دخل ذات يوم من أيامه صيدلية عيشة شريف جنب فندق مرحبا فوجد أحد معارفه هناك. تبادلا التحية، وأخذا يتحدثان عن حالة البلد والانقلاب الجاري فيه. فقال له صاحبه وهو في قمة الحماس متحدثا عن ولي الأمر الجديد: “ما أستطيع أن أؤكده لك اليوم هو أن الرجل الذي تبوأ قيادة البلاد شجاع ورَكّاب وحَلاّب ونَوّاش ورتاع”!


* * *


ما أبهى أن يستلهم شعب بدوي عريق روح عصرَه ويلبس لبوسه، متشبثا بأصالته المأثورة، وآخذا بأسباب المدنية والرقي، فيبني دولة حرة كريمة تحافظ على ما في البداوة من قيم نبيلة، وتتخذ العلم والعمل طريقا للحاق بركب الحضارة الراكض. مثلما جرى في عهد آباء الجمهورية الإسلامية الموريتانية المؤسسين! أما أن نعيش بعقلية القرون الوسطى ونحن في القرن الواحد والعشرين، ونترك قيم البداوة الفاضلة النبيلة تتلاشى من أيدينا ولا يبقى فيها سوى القشور البالية؛ وأن لا يكون نصيبنا من المدنية والحضارة إلا أسوا ما فيها: الربا والمضاربة والكذب والنفاق والزور والغدر وتجارة المخدرات.. وتظل فصائل الشد العكسي و”عباقرة الأمية” السياسية والحضارية المندسة بين المعارضة والموالاة تجرنا إلى وراء الوراء، فذلك هو الخسران المبين.


ترى، متى سيعيد الفاعلون السياسيون الوطنيون في موريتانيا التفافهم حول هدف إعادة تأسيس الدولة المدنية والانتقال من جديد من الخيمة والكوخ إلى الدولة؟


أي الدارين نختار؟


لا يمكن لبشر سوي (حضري أو بدوي) أن يعلن الرحيل دون أن يحدد وجهته، والدار التي ينوي النزول بساحتها، وأن تكون لديه معرفة بمواصفات تلك الدار.


نحن الآن في أوج الصيف الذي تتقى شوكته عند السلف، ونداء “حي على الرحيل” يملأ الآذان، دون أن يواكبه أي تبرير منطقي أو تعليل، ودون أن يتوفر أي تحديد للوجهة أو علامات دار القرار!


كل دعاة “الرحيل” متفقون على “كلمة سواء” بينهم هي “الرحيل”، ولكنهم مختلفون أيما خلاف على ما سوى ذلك:


ـ بعضهم يدعو إلى انقلاب تموزي آخر ضد الشعب، وفترة انتقالية جديدة. وقد قال أينشتاين: إن “الجنون هو فعل الشيء نفسه مرارا”!


ـ وبعضهم “مستعدون لتحمل المسؤولية” دون أن يُطلب ذلك منهم، أو أن يرضاه الناس مستقبلا لوطنهم الكريم؛ ودون أن تكون لديهم هم أيضا أسباب تمكنهم ـ كغيرهم ـ من الوصول إلى ما هم مستعدون لتحمله غير الدعوة الصريحة إلى الانقلاب!


ـ وهناك آخرون لا يدعون إلى شيء.. ولا يقدر على شيء سوى تغذية وإثارة النعرات والفتن وكأنهم موكلون على ذلك، أو تطبيهم النماذج السلبية للدول الفاشلة المنتشرة هنالك وهناك!


وفي واقع سماته الأساسية ـ كما أسلفنا آنفا ـ هي:


1 قيام سلطة وطنية خطت خطوات واسعة إلى الأمام في اتجاه إعادة التأسيس “الدولة الأمة” والإصلاح على خطى الرجال الصالحين المؤسسين، رغم تذبذبها وصعوبة المهمة التي تضطلع بها، وما تحتويه في داخلها من سلبيات.


2 استنفار قوى الفساد وحلفائها القدماء والجدد في الداخل والخارج من أجل خنق واجتثاث تلك السلطة والنكوص بالبلاد إلى الوراء.


3 غياب وضع ثوري يسمح بكنس جميع أسس وجيوب ومقومات نظام الفساد المعشش دفعة واحدة خلافا لما يظنه الواهمون..


في وضع كهذا، لا توجد منزلة بين المنزلتين. ولا يمكن الحياد بين الحق والباطل. بل يجب الاختيار الواعي بين “دارين” وموقفين أساسيين هما:


* المُقام في دار السلام والإصلاح المتاح حيث “الماء وما معه” والانضواء الحازم ـ رغم جميع العقبات ـ تحت راية إعادة تأسيس “الدولة ـ الأمة الموريتانية” السواء بين أبنائها المتساوين، والعمل على توحيد كافة الجهود من أجل حماية أمن واستقرار الوطن وحفظه من شرور وكيد المفسدين الحاقدين والمخربين، ودحر كل محاولات النكوص عن الثوابت الوطنية والقومية المتمثلة في توطيد الاستقلال والديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومقاومة الهيمنة والاستعمار والصهيونية، والتحضير لبلوغ محطات التطور الاقتصادي والاجتماعي اللاحقة. ومما لا شك فيه أن هذا الخيار رغم وجاهته ووطنيته سيظل مهددا بالفشل ما لم يبادر القابضون على السلطة وحلفاؤهم المخلصون باتخاذ إجراءات فارقة في الاتجاه الصحيح تخرجهم من العزلة والتقوقع والريبة، وتوصد الباب أمام الفوضى الداخلية، وتضع حدا لسيطرة المفسدين داخل السلطة المتسترين بثوب الولاء، ولاستفحال نفوذ جماعات الضغط القبلية والجهوية والمالية والإدارية على دوائر صنع القرار الوطني.


* السعي إلى “الرحيل” صيفا في فوضى وهرج ومرج إلى المجهول؛ ومناوأة الجهود الرامية إلى إعادة التأسيس والإصلاح؛ والدفع باتجاه إجراء ولادة اجتماعية قسرية عنوانها: التعلق بأذناب “الربيع العربي” الزائف، وأسلوبها: طرق جميع أبواب الفتنة بغية بلوغ الهدف المنشود، وهو: إجهاض مشروع الدولة الوطنية المدنية بدل الإسهام في تحقيقه، والرجوع بالبلاد إلى عهود الانقلاب الدائم على الشعب، والجمع بين الأختين (السلطة والمال) في أيدي قلة مترفة فاسدة تتولى الاستعمار والصهيونية ولا تعبأ بمصير الوطن والشعب. وهذا الاتجاه وإن كان رجعيا ومخالفا لسنن الكون، ومرفوضا من أغلبية الشعب؛ إلا أن لديه بعض أسباب النجاح، ومن بينها عدم حزم القوى الوطنية وتفككها وهشاشة بعضها، وما يجده من دعم لدى النخبة التائهة وأوساط من المعارضة التقليدية وبعض فئات الشباب الحالمين الذين تخدعهم الشعارات الثورية حتى وإن كان رافعوها هم زمر الباكين على نعيم الامتيازات الضائع ومن كانوا أعداء الثورة والوطن بالأمس القريب. أولم يرد في ديوان أمثالنا: “الّ اتريالك خرص ركبت امراحه”! و”إلى انشكرت لك دار لا تنس دارك”.


إن هذا الخيار بين “الدارين” قد طرح مرارا وتكرارا على أسلافنا في كل المنعطفات الحاسمة التي مروا بها عبر تاريخنا المجيد. وقد استطاعوا في أغلب الأحيان – بعون الله وحكمة وشجاعة شعبهم- تلمس طريق النجاة رغم تعرجه، والوصول بسفينة الوطن إلى بر الأمان. ومن أمثلة ذلك قول الأمير الشهيد سيد أحمد ولد أحمد ولد عيده إبان فتنة الغزو الاستعماري:


هذي دار المنت أديك**أدار الشلحي ينزار


يالعكل اختر لنفســــك**أي الدارين تختــار


نعم. سيحاول بعض المتباكين حجب وتشويش الرؤية، والتأثير على مسار الاختيار! ولكن صدقونا: لو كانت توجد جماهير معبأة للثورة كما يزعمون، لقلنا لكم قبلهم ثوروا. ولو كان يوجد احتلال أجنبي في بلادنا لقلنا لكم جميعا قاوموا.. ولو كانت السلطة التي يسعون إلى رحيلها أفسد من تلك التي كانوا يعبدونها ويحلبونها ويركبونها أمس، ويسعون إلى بعثها وإعادتها إلى سدة الحكم اليوم، لكنا هتفنا برحيلها قبل أن يعلنوا “الرحيل”!


ولكن هيهات.


نحن نعارض دفع الناس وهم قلة عزل إلى معركة خاسرة لا تخدم إلا العدو. ولا نقبل أن يكونوا ضحايا تضليل دعاية العدو فيتخذون العدو صديقا والصديق عدوا. ولا نرضى أن يكون شعبنا (أو جزء منه) جسرا لعودة ما تم اقتلاعه ودكه من معالم الفساد. ونرفض أن نخذل أولئك الحكماء الذين صرخوا ألف مرة في وجوه من مِنْ أجيالنا ضل السبيل وأساء الاختيار فحصد الهزيمة والندامة، قائلين:


مـا تعرفو الخيـر ألا تعرفـو الشــر**واللقمه الّ اتغصص أخير منها اللحيس


لو كنتو تعرفو الخير اتخايرو اصبر**ألكنت تعرفو الشـر اتشـارّو ابليـــــس.



أقــــلام حرة




Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا

No comments:

Post a Comment