Saturday 23 March 2013

جنون الوطن….

الليل في كل مكان.. وأنا أنتظر الإشارة …

وددت لو أغرقت هذا المركب المليء بالجرذان…

وهذه المدينة المومسة الشمطاء….

الساسة المحترفون، ورجال المال والملوك سادة هذا العالم المنهوك…

وأنت سيد بلا مملوك …

عليك مكتوب بأن تحوم حول السور …

تلتقط الفتات والقشور..


يبدو ان عقدة الوطن المسروق تحت جنح الظلام وفي وضح النهار على رؤوس الأشهاد أزمة قديمة للشعراء والمفكرين والأدباء وحتى البسطاء الحالمين بالعيش الكريم في أوطان لاتعترف لهم بأي حق سوى الولادة والموت، هكذا هي موريتانيا التي تشبه “المدينة المومسة الشمطاء” في قصيدة “قرف الأدباء” للشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي…


هل ولد الوطن في صحرائنا أصلا ليسرق أو يموت…؟ وهل يستحق شعب يقتات على بعضه البعض أن يملك وطنا…؟ اليس الوطن كائن ينبض بالحياة فقط في تصوراتا بعيدا عن الواقع الذي نعيش فيه حربا ضد السلطة والعسكر والمدنية. ..


يقولون إننا أصبحنا دولة مستقلة ونملك علما ونشيدا ووطنا وأرضا وحكومة وشعبا منذ أكثر من نصف قرن.. ربما من يقول ذلك لازال يعيش في حلم أطل ذات مساء من خلب الأفق الأزرق في صحراء المنكب البرزخي..


أفقنا من حلم الوطن على عسكر لايرحمون ولايفهمون من الوطن سوى ملابس تشعر المرء بالإشمئزاز وأحذية يفوح من راحة الدم والخذلان والقطرسة وعقول لا تعرف الحلم والفكر والتخيل قدر المستطاع بل هي كالجارة “وإن من الحجارة لما يتفجر….


نتقاسم مع الشاعر الإحساس بالرغبة في حرق المدينة والوطن على غرار مافعله نورون بروما عندما أرادت أن تكبر عنه وتخرج عن طزر طموحه… لأن الوطن دائما الأكبر برفقه وعنفوانه إتجاه الفرد. لكنه يصبح أصغر عندما يمارس كل انواع التهميش والسخرية في حق المنتمين له والحالمين بغد لازالت نياشين العسكر وأحذيتهم النتنة تسحقه كل يوم على صخرة الأحلام المنتظرة لإشارة في ظلام الليل الدامس الذي يلف المكان…


سرقوا وطني…


منذ 1978 حين تولى العسكر الحكم في موريتانيا تعثر الوطن وأصيب بنوبة جنون لم يشفى منها بعد. دخلت موريتانيا في غيبوبة وحمى لها نوبات أشبه بعذابات الإحتضار، فهي ليست بالحية ولم تمت لتريح ونرتاح… إن الوطن يعيش أسيرا لأغلال العسكر والقبيلة والشعب والتاريخ والجغرافيا…


في ذلك الصباح المشؤوم ككل صباحاتنا ومساءاتنا سرق الوطن من أمام أعيننا ولم نستطع حتى الإستغاثة لأن “إعبيد الكدية” أو الصدى سيفضحنا وتحل علينا لعنات شيخ القبيلة الذي يبول على “صفته” كل صباح ويسخر من نعاج المثقفين المتزاحمين على طابوره تزلفا وبحثا عن شغل وكرامة وقطعة خبز…


في كل الأوطان، يسمح للإنسن يحلم ويطمح ليصبح أي شيء من لاشيء، لكننا نحرم ونجرد حتى من القدرة على الحلم والتفكير في مستقبل أكثر إشراقا من ماض بغيض تعيد إنتاجه حلقة الزمن كل فترة من الزمن بطريقة ذاتية لايعترض عليها أحد وكأنها مشيئة الله فينا أن نظل تحت رحمة العسكر ونعيش في وطن مسروق…


سرق الوطن، إغتصبه العسكر ورجال الدين و ”الساسة المحترفون، ورجال المال والملوك سادة هذا العالم المنهوك”….


من يرجع الوطن المسروق… أم أن “الأخيار لم يولدوا بعد” كما يرى الكاتب الإفريقي آيي إكوايي آرماه….


جنون الوطن…


في رواية “حشائش الأفيون” للكاتبة الموريتانية سميرة حمادي فاضل الصادرة عن مكتبة الرائد العلمية بعمان سنة 2006 سنة تصور الكاتبة المجتمع الموريتانيا من زاوية المغتربة، وهي التي عاشت في العراق بعيدا عن الصحراء وطعم الإغتراب داخل الوطن المقهور…


إختارت الكاتبة طريقة “الرسالة” المفتوحة لصديق لتتخفى في ثياب ضمير المتكلم الذي يخولها أن تتقاسم تصوراتها وطموحاتها ورأيها حول الوطن بحرية ولتكون سيدة الحكاية من بدايتها وحتى النهاية. الرواية التي هي عبارة عن 180 صفحة تتلخص في أن الوطن هو سبب الجنون وأن الطفولة المقهورة والضائعة والمهمشة والمطمورة تحت رمال العادات والتقاليد هي السبب في “جنون الوطن”…


بطل الرواية عبد الرحمن، إنتقل من بادية “إكيدي” الي مدينة “لكوارب” ومنها الي “نواكشوط” ثم الي “المغرب” و “دمشق” و “باريس” و “مخيمات اللاجئين في افريقيا مع الأمم المتحدة” ثم الي “جنيف” … لكن كل تلك الرحلات الشيقة والرائعة وشهادة الدكتوراه والنجاح الباهر إنتهى الى جنون في شوراع نواكشوط المغبرة وسط ضجة الأطفال وحشد النساء والرجال…


يختم عبد الرحمن رساله بعبارات تشعر القارئ بشبح الجنون الذي يسكن الوطن دائما : “.. إلا اني لاأخفي عليك فرغم حالتي هذه حالة التشرد والجنون إلا أن قلبي أحيانا يعرف نوعا من الشوق ولاتتوقع بأن يكون شوق لجمانة مثلا فقد كرهت كل ماله علاقة بأنثى، كرهت أنامل الغول والعفريت التي كبلت قدمي منذ ان كنت صغيرا وزرعتني نبتتا خبيثة ووضعت لي أساسا مغشوشا وبعد أن ارتفع البنيان قليلا سرعان ما انهار وانهار بصوت عال وبسرعة فائقة تماما كما يفجرون بالديناميت منزلا يريدون ان يتخلصوا منه، شوقي ياصديقي القديم ورفيق الدرب الضيق شوقي للأرض البعيدة، شوقي لشم رائحة ندية كنت أشمها في شوارع وأحياء دمشق…” {حشائش الأفيون، ص. 178}.


إنه جنون الوطن في أبهى تجلياته، عندما يكون من المفروض أن نستمتع بوجودنا بين الأهل والأجبة ومراتع الطفولة في الوطن ونحن نشتاق الي بلد آخر وعالم آخر زرناه يوما وترك في الذاكرة إنطباعا وشعورا بالإنتماء يجعلنا نشتاق له أكثر من الوطن…


أن نكون في الوطن، ونشتاق الي مجرد رائحة “كتلك الرائحة” التي كتب عنها صنع الله ابراهيم في رواياته لسبب بسيط وهو ان كل الروائح تزكم الأنوف في الوطن وكل فصول السنة تتشابه وتحيل المرء للجنون والإكتآب المزمن والشعور بالضياع…


لكن صديقي، بطل الرواية، عبد الرحمن إستسلم للجنون وفضل أن يعيش حريته المطلقة في التعبير ونقد المجتمع تحت عبائة ان “المجنون مرفوع عنه القلم”، لذلك تجده تارة يشن هجوما عن الساسة وتارة على رجال الأعمال وأخرى على العسكر والحكومة المشؤومة في أرض “اليباب” والبؤس والغبار…


قرر عبد الرحمن عدم الرحيل: “… وسأبقى هنا {في نواكشوط} شبحا قد تلمحه إذا توقفت بسيارتك الفارهة امام إشارة ضوئية، تلمحه وهو يعبر شارعا أو يجلس على حافة الرصيف أو على التراب وقد تجمهر حوله الناس والصبية، وقد تراني بسترتي الصوفية في عز الصيف وقد تراني عاريا رغم برودة نسمات المساء، فإذا رأيتني فلا تنظر الي طويلا ولاتحزن فكما نزرع نحصد ونحن مسيرون ومخيرون. هذا مصيري لم أخير وأنا في البداية عن طريقي المفضل وأنا من اخترت المضي في الطريق الإختياري وأنا من بنيت بعد أن هدمو وأنا من هدمت بعد ان بنيت.” {حشائش الأفيون، ص. 179}


نحن حقا نحصد مازرعه من أقاموا هذا الوطن المغشوش…. فهل نزرع وطنا جديدا ليحصده أبناؤنا … أم ان الوقت قد فات ولا وطن لنا غير الرحيل أو الجنون…..


د. إعل الشيخ أحمد الطلبة




Filed under: موريتانيا, أقلام التغيير Tagged: موريتانيا, أقلام التغيير

No comments:

Post a Comment