(قصد المقاصد)
<<… فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الأفكار، وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار، وغر الظان أنه شيء ما سمع بمثله، ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله أو شكل بشكله، وحسبك من شر سماعه، ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه، فلا تلتفت إلى الإشكال دون اختبار،… فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار، وشد معاقده السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيد أركانه أنظار النظار،…>> (الموافقات، ص:25).
كان الشاطبي، رحمه الله، مدركا أنه يضع، بكتابه المقاصد، قواعد علم جديد حام حوله سابقوه. لم تكن هذه الجدة مريحة بالنسبة له بسبب سياج “البدعة” الذي يحمي الدين من تخرصات كل ناعق، فكان الشاطبي حريصا على تأكيد أصالة علم المقاصد في المباحث الشرعية، إذ يرقى إلى اجتهادات عمر بن الخطاب، ومالك بن أنس، والجويني، والغزالي، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية،<< لكن صياغتها صياغة منهجية متكاملة كان عليها أن تنتظر حتى القرن الثامن للهجرة ليفردها الشاطبي بالتدوين، والتنظير والتأصيل.>>
يعد الشاطبي(ت:790ه) أبا لعلم المقاصد. لكن هذا العلم، رغم تأسيسه على يد الشاطبي ظل مثار جدل بين الأصوليين، والمدارس الفقهية. ذلك أن علم المقاصد يقوم على تعليل الأحكام، وهي قضية أثارت جدلا واسعا بين مثبت مطلقا (المعتزلة)، ومنكر مطلقا (الظاهرية والشيعة)، ومثبت في الأحكام، دون الأفعال، مع إعادة تعريف مفهوم العلة(الأشاعرة)…
يرى المعتزلة في أصل العدل أن رعاية مصالح العباد واجبة على الله، ومن ثم كانت أحكام الشريعة كلها معللة بجلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم. لكن الظاهرية يدافعون عن الأطروحة النقيض تماما. ينكر ابن حزم إمكان تعليل أحكام الله، ويعده مما أحدثه القياسيون..<<وأما القول بالعلل التي يقول بها حذاق القياسيين عند أنفسهم، ولا يرون القياس جائزا إلا عليها، فباليقين ضرورة نعلم أنه لم يقل قط بها أحد من الصحابة بوجه من الوجوه، ولا أحد من التابعين، وإنما هو أمر حدث في أصحاب الشافعي واتبعهم عليه أصحاب أبي حنيفة، ثم تلاهم أصحاب مالك، وهذا أمر متيقن عندهم وعندنا.>>. (الإحكام في أصول الأحكام7/117). يربط ابن حزم التعليل بالتقليد، ويجعل بداية ظهورهما في القرن الرابع، وتأسيسهما في القرن الخامس.(ملخص إبطال القياس…،ص:47).
لم ينفرد الظاهرية برفض تعليل الأحكام، وإنما قال به الشافعي أيضا..<< مذهبنا أنه لا يجب تعليل أحكام الله ـــــ تعالى ـــــ وأفعاله بالأغراض، فله بحكم المالكية أن يوجب ما شاء على من شاء من غير فائدة ومنفعة أصلا.>> (نهاية السول1/150). وينسب هذا الرأي أيضا إلى بعض الحنابلة، والمالكية، والجهمية، وغيرهم. (غاية المرام 422). وهو قول الأشعري الذي يرى أن الله..<< قد خلق وأمر لا لمقصد، ولا لباعث، بل لمحض المشيئة والإرادة.>>
انتهى الأشاعرة إلى قبول تعليل الأحكام، مع إعادة تعريف العلة لتصبح، عند البيضاوي، “المعرف للحكم”، وعند الرازي، “الوصف المعرف للحكم”. يأمل الأشاعرة من إعادة تعريف “العلة” الخروج من الحرج الذي يوقعهم فيه مفهوم العلة كما هو دارج في اللغة والاصطلاح، ذلك المفهوم الذي يجعل العلة مؤثرة في معلولها (الحكم)، وباعثة عليه. يؤدي اعتماد الأشاعرة لهذا التعريف إلى القول بمقالة المعتزلة في أن أحكام الله وأفعاله كلها معللة. لكن تعريف العلة بأنها مجرد أمارة ينصبها الشارع على الحكم للدلالة عليه، دون أن تكون باعثة عليه، ولا مؤثرة فيه، يخرج من هذا الاشكال.
يعالج الغزالي (أشعري آخر) مفهوم العلة بطريقة تبقي على المعنى الدارج للمفهوم، مع تقييده بإرادة الله، فيعرفها بأنها << المؤثرة في الحكم، بإذن الله، أي بجعله لا بالذات.>> (جمع الجوامع2/232). لكن الغزالي، في المستصفى، يتبنى إعادة تعريف البيضاوي، والرازي للعلة حين يقول..<< لا معنى لعلة الحكم إلا علامة منصوبة على الحكم، ويجوز أن ينصب الشرع السكر علامة لتحريم الخمر.>> (المستصفى2/57).
بهذا المعنى تم الفصل بين العلة ومعلولها، بحيث لم تعد مؤثرة فيه ولا باعثة عليه، وإنما هي مجرد أمارة ينصبها الشارع للدلالة عليه. من المعلوم أن الأمارة لا تساوي العلة في مقتضى اللغة والاصطلاح، إذ لا تؤثر الأمارة في ما تدل عليه، ولا هي باعثة عليه، بخلاف العلة. وحين يجعل الغزالي السكر مجرد أمارة على تحريم الخمر فإن ذلك يعني أن لا تعلق حقيقيا لتحريم الخمر بكونه مسكرا، وإنما يمكن للشارع أن ينصب علامة أخرى على تحريم الخمر غير الإسكار…
لم تكن إعادة التعريف هذه مقنعة للغزالي نفسه، الذي يعلم من خلال معارفه الفلسفية، أن مفهوم العلة ليس مرادفا للأمارة، لذلك يعترف بصعوبة تعليل الأحكام..<< لا ننكر اشتمال الشرع على تحكمات وتعبدات، فلا جرم نقول: الأحكام ثلاثة أقسام؛ قسم لا يعلل أصلا، وقسم يعلم كونه معللا، كالحجر على الصبي فإنه لضعف عقله، وقسم يتردد فيه، ونحن لا نقيس ما لم يقع دليل على كون الحكم معللا.>> (المستصفى2/264).
هكذا يضيق الغزالي مجال تعليل الأحكام إلى الثلث، ويعلل التعليل ذاته بالقياس، إذ لا قياس إلا بتعليل… سنجد هذا التلازم بين التعليل والقياس عند الشاطبي في محاججته لنفاة التعليل. يعتمد الشاطبي، في دفاعه عن تعليل الأحكام، على الاستقراء..<< زعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة… والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي، ولا غيره…>> (الموافقات2/6).
يورد الشاطبي العديد من آيات الأحكام المعللة، مثل قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)(البقرة179) ليستنتج <<… وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة. ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد،…>> (الموافقات2/7).
نسي الشاطبي، رحمه الله، أن الاستقراء لا يفيد يقينا، ومن ثم لا يمكن القطع بنتائجه، فهي صحيحة في الحالات التي تم استقراؤها بالفعل، أما تلك التي لم تستقرأ فلا نعلم يقينا ما إذا كان الحكم سينطبق عليها أم لا، لأننا في الاستقراء ننتقل من الخاص إلى العام، وما ثبت في الخاص، قد لا يثبت في العام. يضاف إلى ذلك أن الغزالي يصرح أن في الشرع تحكمات، وأن بعض الأحكام لا يعلل أصلا، والبعض الآخر تعليله ظني… لكن الشاطبي، في نهاية نصه، يفصح عن علة التعليل..<< ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد…>>.
بهذا المعنى، يستخدم الاستقراء، في أصول الفقه، كما يستخدم في العلوم الطبيعية. فهو منهج لا يفيد اليقين، ولا يمكن تبريره منطقيا، لكنه يستخدم للنتائج المترتبة على استخدامه. ففي العلوم الطبيعية لا بد من تعميم الحكم على جميع أفراد النوع ليصبح قانونا، رغم استحالة تبرير هذا التعميم منطقيا، واستحالة التحقق من انطباق الحكم على جميع أفراد النوع. لكن يتم التغاضي عن هاتين الاستحالتين من أجل الاستفادة من النتائج المترتبة على تجاهلهما.
كذلك في علم الأصول لا يمكن معرفة علل أحكام الله (إن كانت لها علل أصلا!) بشكل يقيني، لكن يتم تعليلها، رغم ذلك، لتبرير القياس، ومن ثم سهل على منكري القياس(الظاهرية والشيعة) إنكار تعليل الأحكام، لأنهم لا يحتاجون إلى التعليل ما داموا يرفضون آلية القياس.
ستنعكس هشاشة القول بتعليل الأحكام على علم المقاصد لأنه مبني على تعليل الأحكام، لذلك عانى نفس العلل التي يعانيها التعليل. فلا يمكن تأصيل علم المقاصد أبعد من “قواعد” العز بن عبد السلام (ت:660ه)، و”فروق” القرافي (ت:682ه)، رغم محاولة التماسه في اجتهادات عمر بن الخطاب. يعبر الشاطبي نفسه، في نصه الأول عن أزمة الأصول هذه، لكنه يزيدها وضوحا في نص آخر، حين يقول: << قد اتفقت الأمة، بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي الدين، والنفس، والنسل، والمال، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه. بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموعة أدلة لا تنحصر في باب واحد.>>
نحن أمام نص قلق بامتياز.. علم المقاصد “كالضروري” (المشبه بالشيء لا يقوى قوته!)، و ليس هناك “دليل معين”، و لا “أصل معين”، وإنما علمت “ملاءمة” الكليات الخمس (البعض يجعلها ستة بإضافة حفظ العرض) “للشريعة بمجموعة أدلة…”. هي إذن اجتهادات تواطأت الأمة عليها، وعليها بني علم المقاصد! هي إذن اجتهاد يؤسس على اجتهاد في غياب تام لنص صريح او ضمني يمكن الركون إليه. ذاك ما أكده ابن حزم ولم ينفه الشاطبي. أما تأكيدات الشاطبي على أصالة علم المقاصد فهي، كما أشرنا سابقا، محاولة للاحتماء من وصمة البدعة في الدين…
رغم كل هذه التحفظات، شق علم المقاصد طريقه بثبات، منذ الشاطبي(القرن الثامن الهجري)، بصفته موجها حكيما للإجتهاد، ومؤسسا للقياس، وهما آليتان لا تستغني عنهما الشريعة في محاولاتها الدؤوب للاستجابة للنوازل اللاحقة على اكتمال مبنى النص، ولا يمكن إدخالها في معناه إلا عن طريق الاجتهاد المؤسس على القياس، الذي يستمد شرعيته من تعليل الأحكام، بناء على تصور مكرس لمقاصد الشريعة.
إتفق الأصوليون على أن مقاصد الشريعة << هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد.>>، وحددوا هذه الغايات في خمس، أو ست:
1ــــ حفظ الدين، ويقابله حد الردة.
2ـــــ حفظ النفس، ويقابله القتل قصاصا.
3ـــــ حفظ النسب، ويقابله حد الزنى.
4ــــ حفظ العقل، ويقابله حد شرب الخمر.
5ــــ حفظ المال، ويقابله حد السرقة.
6ــــ حفظ العرض (لمن يقول به)، ويقابله حد القذف.
ربط الأصوليون هذه المقاصد الكلية بالحدود الشرعية، ورتبوها بحيث يكون الدين أولى الأولويات، فجعلوا هذه المقاصد العامة نبراسا يهتدي به المجتهدون… رغم كل هذه الاحترازات لم يزل نفاة تعليل الأحكام، المتحفظين على الركون إلى المقاصد يحشدون حججهم، ومنها آيات صريحة في ذم التعليل مثل قوله تعالى: (…وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء…)(المدثر31). كما يحتجون بأن إبليس هو أول من بحث عن العلل وطبقها حين قال معللا رفضه السجود لآدم..(قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)(الأعراف12).
يرد دعاة التعليل، وبناة المقاصد، إن المقصود في الآيتين << هو ما أريد به عدم تنفيذ شرع الله إلا بعد معرفة المقاصد، أو البحث عن العلل، وهذا من الباطل الذي اتفق عليه العلماء.>> لكن المؤسف هو أن هذا “الإجماع” لم يعد قائما، فبعض المتحمسين للمقاصد اليوم، من أصحاب “لاهوت التبرير”، يستخدمونها لإبطال بعض الأحكام الشرعية بحجة أن “المصالح” تقتضي إبطالها…
(يتبع، إن شاء الله).
دكتور/محمد إسحاق الكنتي
Alkunty_dr@yahoo.fr
Filed under: موريتانيا, أقلام التغيير Tagged: موريتانيا, أقلام التغيير

No comments:
Post a Comment