Sunday 26 August 2012

-‫#موريتانيا ‬‏السجن لا تغلق أبوابه…

كتبه حماه الله ولد حننَّ، إمام وخطيب جامع عبد الله بن المبارك


كتبه حماه الله ولد حننَّ، إمام وخطيب جامع عبد الله بن المبارك


تجربة السجن ككل تجارب الابتلاء لابد للمَّار بها أن يستفيد بعض الدروس والعبر.. وإن وفقه الله كانت محنته سببًا في هدايته والتبصر في درر المعاني والعبر بحكم معايشته ومعاينته.. وليس من رأى كمن سمع.ففي السجن تتخلص من كثير من الشواغل والصوارف، فتخلو مع نفسك وتكثر من قراءة كتاب ربك وتقلب الأفكار في فكرك لعلك تجد علة سجنك أو فكرة سحرية لخلاصك من ورطتك.. وفي السجن تخالط ناساً بعضهم منك قريب وبعضهم منك بعيد وبعضهم يحسب أن تمسكك بما ترك هو من الحق دليلا على ثباته هو وعدم انتكاسه عن ما كان يراه حقاً، وبعضهم يخيل إليه في المنام أنه حر طليق فإذا ما استيقظ وعلم أن أبواب السجن مازالت مغلّة عليه عاملك على أنك أنت السبب في ذلك، ثم إن منهم من هو ثابت محتسب صابر عامل لدينه يتعلم الدين ويعلمه لا يهمه تسخط الساخطين ولا تحليل المحللين، ومنهم الساخر من كل شيء إلا ما عظم في فكره أو رآه من مسلمات الدين وسنة سيد المرسلين، فيُذهب وحشة السجن عنك بفكاهته وحسن معاملته وشعره ونثره…

هذا التقلب وهذا التنوع وهذه العينات من البشر كل هذا مع ظلم بعض السجانين وتعاطف آخرين هو أهم ما يظهر لك من مظاهر السجن.. ولا داعي لكشف المستور والله وحده هو الغفور.


والناس في السجن على حالين منهم من يعيش كما يفكر.. ومنهم من يفكر كما يعيش.. أهل الحال الأولى أدركوا من معان الدين والإيمان ما جعلهم يجعلون محنتهم منحة فأوقاتهم ما بين تلاوة القرآن وحفظ الآثار والمتون واقتناص المعان الحسان، وأما أهل الحال الثانية ففكرهم محصور في قضاء يومهم وليلتهم وخلاصهم من سجنهم..


وإنك والله لتعجب حين تمر بك أوقات في السجن تجد فيها من السعادة ما لا تجده وأنت حر طليق وصدق والله وأحسن الشيخ المجلسي حفظه الله في نظمه الرائع الماتع العقد الفريد في نصح السجين حين قال:


أما السعادة فبالإيمان

لا بالمكان لا ولا الزمان


وإنك لتعجب أيضا حين تحقق من المقاصد في السجن مع قلة الوسائل والإمكانات بل وانعدامها تارة ما لا تستطيع تحقيقه وأنت حر طليق.. وهذا والله لا أستطيع فهمه إلا بمنِّ الله على من ابتليَ بالسجن بالبركة في الوقت والعمل التي ربما حرمها وهو حر طليق..


إن أمر هذا الإنسان لا يخلو من تقلب بين البأساء والعافية، أو بين التعب والراحة، أو بين شغل وفراغ، وفي كل أحواله لا محالة مطالب بأداء عبادة تناسب حاله، ففي حالة البلاء مطالب بالصبر وفي حالة العافية مطالب بالشكر وفي حالة الفراغ قد يجب عليه من التكاليف ما كان معذورا في تركه حالة شغله.. وهذا المعنى هو مصداق قول الله تعالى: [قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين] [الأنعام:162]..


وبعض أصحاب الهمم والإرادات الضعيفة يخافون من العودة إلى ما كانوا عليه من الحقِّ بسبب ما عانوه من الابتلاء.. فما أن يفرج عنهم حتى يعقدوا العزم على أن لا يعودوا إلى ما كان عندهم من الحقِّ.. وهذا في الغالب لا يحصل إلا لمن فسدت نيته ابتداء وكان قصده غير وجه الله تعالى..


فهؤلاء الذين يسمون أنفسهم أصحاب الخبرة ويزعمون أن طريق الحق والدعوة إليه ومجابهة الباطل وأهله لا توصل إلى شيء.. نعم قد لا يحصل لهم من فتات الدنيا شيء بل قد يخسرون ما عندهم منها.. ولكن عزاءنا أن نؤمن أن المسلم ليس بهيمة بلا إرادة، بل هو صاحب وعدٍ قد يكبو مرة بعد مرة ولكنه لا يمل ولا يكل ومطلبه في هذه الطريق وأمارة الحق الذي يدعو إليه آلام الطريق وتبعاته وضريبة الابتلاء فيه.. وهو في كل ذلك يتلو قول الله تعالى: [ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين ] [آل عمران:146] ..


واعلم أيها السجين في سبيل الله أن العسر واليسر أمران قدريان ولا ينبغي لأحدهما إن وقع على العبد أن يمنعه عن العمل؛ فالا حال اليسر يدعو إلى الخمول والتكاسل، ولا حال العسر يمنعك من الإقبال على العمل الصالح.. فأصحاب الحق يعملون له في كل حال في المنشط والمكره في اليسر والعسر ولا يضرهم حالهم ولا حال من خالفهم وأرجف فيهم.. أما الذين أفلسو من الأدلة الشرعية في تبرير ما هم عليه من الباطل وترك ما يجب عليهم من التكاليف ثم يحتجون بالظروف والأحوال فهؤلاء شر الخليقة وأبعد الناس عن بلوغ المآرب وهم الذين قال الله فيهم أنهم يقولون لغيرهم: [ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ ] [التوبة:81] .. [ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ] [الفتح:11] ..


أيها السجين دعك من التسويف وتعليق الأعذار على الظروف والأحوال، فالتسويف يسرق عمرك ويهلكك وأنت لا تدري.. ودع عنك الخوف من فوات الدنيا.. وألقِ بالخوف الكامن في قلبك مما تعيش من البأساء والضراء بسبب الحق والصدع والعمل به..


إنه في السجن تشعر وتفهم كلَّ معاني العسر؛ فالعسر ضيق وإن تعددت صوره، وهو أيضا فراغ الإرادة من أدواتها أو تحقق مانع أو أكثر يمنعك من الوصل إلى مبتغاك.. فإن فاتتك مصالح كان بإمكانك تحقيقها وأنت حر فلا تزد على ذلك فوت مصالح بإمكانك فقط في السجن أن تحققها، وادفع عنك مفسدة الخمول والتسويف..


واعلم أن النِّعم لا تدرك حقائقها إلا بأضدادها، فبضدها تتميز الأشياء.. وسنة الله في القبض والبسط والمنع والعطاء تجري على كل البشر أحبهم عند الله وأبغضهم عنده.. والتزامك بالطاعة والصبر واليقين والثبات في لحظات عسرك هو الذي يحقق لك الفرج مما أنت فيه.. أما المعصية والتسخط والانتكاس فذلك لا يجلب فرجًا ولا يدفع بلاء إنما يزيدك خسرانا وخذلانا ولا حول ولا قوة إلا بالله..


واعلم أنه لن يغلب عسر واحد يسرين اثنين.. فالعسر في الآيتين معرف بخلاف اليسر في الآيتين فهو مُنَكَّرٌ، دل ذلك على وقوع يسرين مختلفين في مقابل عسر واحد.. [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ] [الشَّرح:6].. والمؤمن الذي يؤمن بأن ما هو فيه من العسر والضيق والبلاء زائل لا محالة يهون عليه ما يكابده.. ولذلك من أشد ما يعذب به الإنسان اليأس والقنوط.. وإنه والله ليعجبني قول أمهات إخواننا المأسورين في فلسطين عند الصهاينة الحاقدين (السجن لا تغلق أبوابه)، يعني: لا بد أن تفتح يوماً.. فالابتلاء الواقع من المخلوق زائل لا محالة لأن الذي أوقع بك البلاء زائل ولا بد.. ولكن لا يحدث شيء قبل أوانه، ومن تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه..


واعلم أن طول البلاء يعني قرب زواله.. والبلاء لذاته لا يحبه إلا جاهل إلا ما كان يرجى منه الرحمة والظفر والغنيمة وذلك كالجهاد في سبيل الله، قال تعالى: [ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ] [البقرة:216].. فتتوق النفوس المؤمنة لما فيه من مقامات الخير لأصحابه ولما يحصل به من إعلاء كلمة الله.. وهذا مما يقرب معنى محبة الصالحين للبلاء في الدين.. والبلاء دليل على القبول ومحبة الله وإرادة الخير من الله للمبتلى كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من يُرد الله به خيرا يصب منه).. وهو أيضا تحصيل للدرجات ومغفرة للذنوب.. والمؤمن الذي يطلب العافية كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يطلبها ولكن ليس على المعنى الذي يريده أهل الخمول والبطالة بهروبهم من تكاليف الطريق مخافة البلاء وإيثارًا للعافية على حساب الدين والعرض.. ولكن يعملون للدين قدر المستطاع ثم هم بعد ذلك يسألون الله العافية..


أخي السجين في بلاد شنقيط وفي غيرها والله ما نسيناك وكيف ينسى الرجل نفسه، ولو أنا تناسيناك فكيف ينسى المسلم وخصوصا الدعي إلى الله قول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري من حديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [ فُكُّوا الْعَانِيَ.. وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ.. وَعُودُوا الْمَرِيضَ ].. وإني والله لأعجب من أولئك الذين كلَّما دعوا إلى الولائم أجابوا ثم هم لا يرفعون رأسًا بل لا يستشعرون وجوب قوله صلى الله عليه وسلم فكوا العاني، قال ابن بطال: “فكاك الأسير فرض على الكفاية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: فكوا العاني. وعلى هذا كافة العلماء”.. إننا لا محالة مقصرون في حقكم وفي غيرها من الحقوق، وهذا التقصير لا ينبغي أن يدفعنا إلى المكابرة والتشبع بما لم نفعل، ولكنه على الأقل يوجب علينا أن نذكِّر بمعاناتكم وأن نطالب بفك أسركم ورفع الظلم عنكم لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.. وإن لم نفعل فنحن نسيء إلى أنفسنا بتركنا ما أوجب الله علينا وأنتم لا يضركم من خذلكم ولا من خالفكم..


أنا آكل ما أشاء وأذهب إلى أين أشاء وأقابل من أشاء، ولكني ما نسيت إخواني الذين ينامون ويأكلون حيث شاء غيرهم.. منهم الحافظ لكتاب الله ومنهم طالب العلم الذي أمضى سنوات عديدة يتجول بين المحاظر ليس من أجل طلب الدنيا بل من أجل طلب العلم الشرعي.. وإني وإن كنت لا محالة ذاكرًا نموذجًا منهم فهو ذلك الأخ السوداني الذي عرفته في السجن حافظ لكتاب الله مثال في الأخلاق والتواضع والزهد والهمة العالية التي لم يعكر صفوها سنوات الظلم ولياليه الطوال، هذا الأخ أكمل محكوميته وزاد عليها ما يقارب السنة ولا يزال مهملاً في سجنه صابراً على بلائه محتسباً عند ربه أجره.. ومنهم أيضاً ذلك الأخ السينغالي طالب العلم والحافظ لكتاب الله تقلب بين المحاظر الموريتانية زهاء العشر سنين يتعلم القرآن وعلومه والنحو ومتونه، مثال في التواضع والزهد وطلب العلم، إن تكلم تكلم في هدوء وفيما يرضي الله وإن سكت علاه الوقار.. فعلى مثل هؤلاء يحدو بنا الشوق ومن ألم فراقهم تئن قلوبنا..


لقد نال العفو اللصوص المفسدين والمجرمين القاتلين والزناة المغتصبين لبنات المسلمين، ولم تستطع المحكمة تجريم من عبث بمشاعر المسلمين وحرق كتب علمائهم أمام أعين الناس أجمعين… ومع هذا يهمل حفظة القرآن بعد انتهاء مدتهم ويبعد آخرون في السجون السرية لا أحد يعلم عن حالهم شيئًا… وهذا والله حرام في شرع الله بل وفي القوانين الظالمة التي سنت وعدلت وطبقت على مقياس وأهواء البشر بل وأنجس البشر اليهود والنصارى…


هذه الظروف وغيرها هي حال إخواننا في السجون، أما خارج السجون فحدث ولا حرج، إلا أني أيها القارئ الكريم أقول لك أنه هناك أسوء من هذا، فالآلاف من خيرة الشباب المسلم والدعاة والعلماء في سجون النظام السعودي وفي سوريا وفي العراق وفي اليمن وفي أفغانستان وفي المغرب وفي الجزائر، وقبل الثورة في مصر كان السجناء يقدرون بثلاثين ألف سجين، وقتل الهالك القذافي في سجن بو سليم في يوم واحد أكثر من ألف ومائتي سجين من خيرة الشباب والدعاة إلى الله… وبعد كل فعالهم في الإسلام والمسلمين مكَّن الله لأولياء الله الصابرين من عدو الله القذافي فضربوا عنقه وأنهو ملكه وشردوا جنده.. وأسقطت ثورة ذلك الشعب المسلم فرعونَ مصر وهو الآن بين الحياة والموت.. وهرب الطاغية التونسي إلى إخوانه في السعودية، والقادم بإذن الله أدهى وأمر، والعاقبة للمتقين.. ولا عدوان إلا على الظالمين.. والحمد لله رب العالمين.


كتبه حماه الله ولد حننَّ، إمام وخطيب جامع عبد الله بن المبارك

نواكشوط 05 شوال لعام 1433 هـ،

الموافق 23- 08 – 2012م.





Filed under: موريتانيا, أقلام التغيير Tagged: موريتانيا, أقلام التغيير

No comments:

Post a Comment