لا جدال أن لحم المسلم مسموم عالما كان أم جاهلا ، فلم يفرق القرآن الكريم بينهما في هذا المجال. غير أن الرأي يحتمل الخطأ والصواب ويجوز لكل واحد الاقتداء بالإمام الشافعي حين تصور رأيه صوابا يحتمل الخطأ خلافا لرأي غيره الذي يعتبر خطأ، في نظره، يحتمل الصواب.
وليس في ذلك نبرة تكبر ولا كبرياء ، ولكنها تنبيه على أن ما يكتبه الإنسان ينبغي أن يصدر عن قناعة وفق ما توفر من أدلة ، لا بد أن تكون بالضرورة خاضعة لميزان الشرع، وجواز بعض الظن لا يعفي من الارتكاز إلى دليل يمكن الاحتكام إليه.
وقد نبهت في بداية هذه المقالات على شيئين أحب دون الرجوع لكل ما كتبت، أن أذكر بهما:
الأول: أن السُمَّ أكثر انسيابا حينما يكون تدبيره يأتي من أيدي مأمونة.
والثاني:عدم قابلية اتخاذ الحضارة الغربية وعلى وجه الخصوص الأمريكية مرجعا لتصرفات صالحة سندا لتحرير أمة أعماها طول فترة الظلام.
لقد اتخذنا بإيجاز في الحلقة السابقة نماذج من شهادة كتاب وفنانين أوربيين مما لحق الحضارة من جراء تحكم نمط إنتاج معين ومسلكيات منبتة الجذور عن مجرى الحضارة الإنسانية العام،الذي يعتبر في أحد جوانبه حاصل جمع تراكمات أخلاقية ونزعات إنسانية،تكاد تكون متماسكة ومنسجمة مع أي عقل وذوق سليمين.
وربما ذًيلْتُ انطباعاتي في الحلقة السابقة بإضافة رأي “آندرى مالرو”، الكاتب والسياسي الفرنسي الشهير،حين وقف،وهو وزيرا للثقافة وقتها،مدافعا عن استقلال الجزائر منتقدا بشدة الممارسات اللا إنسانية التي يتعرض لها الثوار الجزائريون على أيدي المحتل الفرنسي،وقد كاد هذا الموقف أن يكلفه حياته حين زُرع لغم أمام بيته في أحد أحياء باريس، لا أذكره.
دون مغادرة السياق ، لا بد من الاعتراف بالاختلاف بين المفكر عندنا والمفكر عندهم لأسباب قد لا يتاح تفصيلها،لكن الذي يجب أن يبقى حاضرا،هو وجود خيط ملموس بشكل عام عند المفكر الغربي ومصلحة بلاده ، واتصال ذلك الخيط عند مفكرينا والغربَ حتى لا أقول والمصالح الغربية.
وعلى العموم كما تعرفون إطلاق الكل على البعض والعكس، من المباح. إن الفكر والمفكر في الغرب وجد لنفسه أرضية وأرضا يستقر عليها محددا لنفسه مرتكزات يمكن من خلالها أن يلقي نظرة متسعة على واقعه وواقع بلاده ليمد البصر إلى أصقاع المعمورة.
أما عندنا ، فيبدو أن المفكر لم يجد لنفسه أرضا ولا أرضية يستقر عليها، ولا يزال تائها دون أن تكون هناك نقطة أفق مرئية نستطيع التفاؤل أنها ستكون له موقعا أو منطلقا يستطيع من خلاله بعد استخدام كل البوصلات والاستفادة من كل الحضارات، الانطلاق ليصل إلى موقع آمن محصن على غرار غيره.
لم يُقصر الكتاب في لفت الانتباه على هذه الظاهرة فيرى الفيلسوف المعروف زكي نجيب محمود : ” إن المفكرين في بلادنا لا يجدون سبيلا يصل بهم إلى هدفهم الواضح، بل توجد موانع وعقبات تتمثل في الجمود الفكري لدى أولي الأمر …” ، ويمضي في تحليلاته ليستخلص أن في العالم نموذجان اشتراكي ورأسمالي ، ويحاول العالم الثالث أن يشق لنفسه طريقا ثالثا.. وفي النهاية ظل تائها.
ويمضي الدكتور زكي لينحدر بتحليله لمستوى السذاجة حين يقول: ” إن الدعوة للعودة للسلف الصالح غريبة، فالسلفيون يتحدثون من جهاز راديو لم يكن من صنع السلف. ويستخدمون كل الوسائل والأجهزة العصرية “.
ويضيف مفكرنا في نفس السياق إن الدعوة لتطبيق الشريعة غير مؤسسة لتنافيها مع روح العصر، فقطع يد السارق يتنافى مع قسم الطبيب.
رغم عمق التحليل الذي قدم الكاتب والفيلسوف المعروف ، فإن القصور شابه حين استسلم لتصورات قطاع كبير من مفكري وفلاسفة الغرب ، مفاده أن تطبيق الشريعة الإسلامية يعتبر عائقا أمام تقدم البشرية ، بل ومنافيا لِحَمِيدِ ما تعرف عليه البشر من قواعد وسلوك يشكل زبدة حضارة مسماة إنسانية…
مصدر إثارة هذه النقطة هو تبني قادة المسلمين لها، وأقول المسلمين ولا أقول الإسلام ؛ نتيجة الترهيب، بكافة أنواعه، الممارس عليهم.
أما الكاتب والفيلسوف الشيوعي القدير ، مراد وهبة ، فيرى أن الفكر العربي قد ترنَّح بين مرحلتين، مرحلة التمرد ومرحلة الجمود ليس أكثر.
الواضح من خلال الاستشهادات السريعة ، وغيرها ممن تناول الموضوع بعمق ، أن المجتمع فقد توازنه وفاعليته التاريخية الإبداعية وخسر معاركه الحضارية، ولاشك أن ذلك يرجع لعدم اتخاذ بوصلة تنبع من عمق هذا المجتمع وتكون نبراسا يضيء مختلف ما وصلت إليه الإنسانية من جوانب إيجابية ، وذلك لا يتسنى إلا باتخاذ الإسلام منهجا أو مصفاة لكل فكر أصيل أو دخيل.
إن اتخاذَ الدين القَيم منهجا يتنافى وأخذ آيات مبتورة عن سياقها ومحاولة إقحامها على واقع ليتم تطويع مفرداتها لفرض دلالاتها لتتسع خارج سياقها.
إن باب الاجتهاد لا يملك أحد سده ولكن باب الفساد يجب على كل واحد من موقعه محاربته.
إن التهديد الذي يتعرض له المسلمون اليوم نابع من ترنح الفكر العربي ومحاولاته التوفيقية ، التي لا تمتاح ولا تستلهم العناصر الإيجابية لتصبها في قوالب منسجمة متماسكة، صالحة لتكون نبتة في بلادنا؛ وليس ذلك جديدا على الفكر العربي الإسلامي.
فمن تناول بالدراسة تاريخ هذا الفكر،سيجد محاولات الكندي والفارابي وابن رشد،و غيرهم،للتوفيق بين الدين والفلسفة،غاية في السطحية والتسطيح والسذاجة والابتذال،ويكفي للتدليل على ذلك نظرة خاطفة على نظرية الفيض ، مثلا ، عند من تناولها..
تملك الحضارة الغالبة وسائل للتأثير منظورة و خفية،و هي التي دفعت علماء اكتملوا ثقافيا لمحاولات التوفيق تلك،ولم تكن الدسائس الفكرية و غيرها غائبة عن الطريقة التي تم بواسطتها تدجين العقل الإسلامي ليتفتق عن تصورات تدل على عمق التفكير في ظاهرها و تخفي في باطنها عداء مكبوتا للإسلام،فمن يسمون بالمتكلمين تناولوا دون لزوم أو حاجة دينية أو علمية قضية خلق القرآن الكريم،و لا يحتاج الدارس التأمل ليكتشف أن ذلك تمهيدا لزعزعة الثقة في هذا النص المقدس ، و إعطاء الانطباع أن صياغته قد لا تكون إلهية،و عليه فإن إخضاعه لعلم المناهج المطبقة في العلوم الإنسانية أمر وارد كما مسعى المتكلمين المعاصرين أو فقهاء السياسة أو سياسيي الفقه.
وهو ما يتطلب أن نتتبع لاحقا بنوع من التأني سلبي التأثير و التأثر بالثقافة الغربية في غياب العواصم و السياج الحضاري العلمي الواقي من الوقوع في أحضان الحضارات الغالبة بالمفهوم الواسع للمصطلح ، و ذلك بمعني غير بعيد:يعني أن التبعية تبدأ من المجالات الفكرية لتشمل السياسية و الاقتصادية و حتى الأخلاقية.
و لنا في التاريخ المعاصر نماذج لا أريد أن أتجاوز دون إشارة إليها ، فالمخالفات الصارخة التي يعاني المسلمون اليوم من شظاياها في مختلف مناحيهم الحياتية يمكن التأصيل لها منذ الحقب المذكورة أعلاه،فحين تقف قامة عالية مثل الأستاذ محمد أركون لتجيز صراحة حق دولة ما في منع المرأة من ممارسة شعائرها الدينية،أو ما أمرها به شرعها،و لا مشاحة في المصطلحات،فإن ذلك نذير انكسار يفتح المجال لهامة أعلى هو فضيلة العلامة القرضاوي،رئيس اتحاد العلماء المسلمين ، ليصدر فتاوي معلنا صراحة أن مصدرها فقه الخوارج ، و يقف ، أو يجلس في فضائية من أكثر الفضائيات وسائل و إمكانيات ” قناة الجزيرة ” و يفتي بالمصافحة ، مبررا ذلك بالضرورة.
و حين بدأ في تفسير الضرورة بدا أنها لم تتجاوز الإحراج ، و الفرق متسع بين الإثنين ، فقال بالحرف ، و على مرأي و مسمع من مشاهدي الجزيرة و هم كثر ، ” حين أعود لقريتي مثلا و أجد بنات العم و بنات الخال و بعض قريباتي ….. “.
إن الخطورة في هذه الفتوى أنها مجاراة لواقع جاهلي دون سند شرعي يبرر تقية أو إخفاء موقف ، و لكن الخطورة التي قد لا تبدو جلية هي اختلاط الضرورة فقها في ذهن المسلم العادي ، فهذا عالم عارف يري أن مصافحة أهل الحي جائزة بحكم دخولها في باب الضرورة . و قد تقود هذه الفتوى لفساد في القياس لا يعادله فساد إلا مجادلة البعض بأن هذه شكليات و ليست من أولويات الدين ..
إني لا أعرف ما المقصود بالشكليات في الدين و لا بالأوليات حين لا يكون ما حرم الله أولوية ..إن الله قادر على كل شيء و بيده كل شيء ، و هو جل جلاله من يملك ترتيب الاولويات فيما حرم …..
غير أن المعنى الخفي الذي ألمسه هو ارتباط الجانب المادي في ذهن كثيرين بجانب الأولويات .و لا بد من هنا أن ألاحظ بارتياح قولا سمعته بالتواتر و قطعت به منسوبا لفضيلة العلامة محمد ولد سيدي يحي :
” ….قد كفر العالم السوداني الذي أباح المصافحة مع النساء ..”.
و قد روى لي من أثق فيه من أسرة شيخ الاسلام محمد سالم ولد عدود أنه نقل عنه حديثا معناه أن الرجل خير له أن يضع كفه على مسمار أصدإ من أن يضعها في يد أجنبية ، و هذا قد رويته بالمعني .. وقبل أن يسافر رحمه الله إلى سوريا بعثت وزارة الخارجية الموريتانية برسالة لسوريا تخبر الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة أن العالم الوزير الورع لا يصافح النساء ..!!
و ظني أن الإخوة هناك احترموا موقف الرجل وقدروه حق تقديره و لم تكن في الزيارة أية ثغرة أثرت على نجاحها الباهر..
يتبع
Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا
No comments:
Post a Comment