Wednesday 27 June 2012

معاناة الكتب من خصومها





حين رأيت بعض كتب المالكية في مقاطعة الرياض تحرق لينال – فيما يبدو- ذووها العقاب الرمزي بإحراقها، رأيت في ذات الوقت كتبا أخرى ستكتب في لاحق الأزمان مؤرخة لحادثتهم شاهدة عليهم أنهم أعداء للمعرفة ولن يكون بمقدورهم حرقها -حينئذ- لأنها للأسف – تكتب في زمان لاحق لن يكونوا حاضرين فيه..


تساءلت – حين استحالت الكتب الى رماد- عن كتب المالكية الأخرى التي لم يطلها الإحراق بأي ذنب سلمت ؟ فردت عليّ القصيدة التي دونت حال الكاتب النمساوي الذي سقط اسمه سهوا من قائمة الممنوعين زمن الفاشية الهتلرية التي تقول:


يوم امر النظام


بحرق الكتب علنا


وارغمت الثيران’كل الثيران


على جر العربات- محملة بالكتب- الى المحارق


تفحص واحد من افضل الكتّاب المطاردين


قائمة الكتب المحروقة


فهاله ان يكتشف انهم ..


نسوا كتبه ..


فاستشاط غضبا فهرع الى مكتبه


وخط الى الحاكمين سطرا على عجل:


“احرقوني! احرقوني!


لاتسيؤا الي!


ألم اقل الحقيقة فيما كتبت؟


لم تعاملونني ككذاب؟


آمركم ان تحرقوني!


قالوا إن هذه كتب فقه استرقاقية ..


قلت إذن بهذا المنطق سيحرق من يجيز الغناء الكتب التي تحرمه ومن يحرم الغناء الكتب التي تمجده .. والذين يدعون للسلطان كتب الخارجين عليه والخارجون كتب الموالين والاصوليون كتب الفروعيين والفروعيون كتب الأصوليين والفلاسفة كتب العلميين والعلميون كتب الغنوصيين والغنوصيون كتب الطبيعيين وهكذا دواليك الى أن لا يبقى لدينا كتاب؟


إن الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية بوسائل وأدوات معروفة لدى العلماء لا يجيدها غيرهم ..


والفتوى متغيرة بتغير الوقائع والأزمنة ، والفقيه حين يعارض الفقيه لا يتجه لشخصه وإنما الى دليله ويقارع الدليل بالدليل والحجة بأختها.. ثم تكون الأمة وعلماؤها حكما يصوب هذا أو ذاك .. مع حفظ مكانتهما للمصيب اجران وللمخطئ اجر .


والفقه بهذه الآلية يجدد نفسه تلقائيا ويدور مع الدورة الشمسية صالحا لكل زمان ومكان..وهو أيضا فقه الشريعة وأحكامها لا فقه فلان أو علان ، ينبغي أن ندرك أن الفقه فرع لأصل هو القرآن والسنة ولا انفكاك للفرع عن الأصل أبدا ..


كما ينبغي أن نتفهم أن الفقيه هو من يرد على الفقيه وبالأدوات المعروفة لدى أهل الاختصاص ، كما لا يباري الطبيب الا الطبيب ولا المهندس الا المهندس فرد غير الفقيه على الفقيه تجديف.


لقد عبّر البابا بنيدكت السادس عشر عن مدى جهله بالإسلام أو تحامله عليه حينما ادعى أن الإسلام ضد العقل والحرية، بينما كل ما في الإسلام معقول ومحرِّر (بكسر الراء الأولى) ودعوة للتفكر والنظر في كل شيء، لأنه صادر عن حكيم فعال لما يريد..


*(حينما تسأل في الغرب عن من يخدمون أوطانهم أكثر ، وينبغي احترامهم والإعجاب بهم؟ فسيقال لك بكل جرأة: إنَّهم العلماء. وحين تسأل بعض أنصاف المتعلِّمين عن عدوّه الأوّل، ومن يقوم بتدمير الأمَّة وتضييع هويتها؟ فسيقول لك: إنَّهم العلماء!!) دون نظر فيما حوته المسائل من أدلة، ودون إدراك لطبيعة المسائل الخلافية التي تقبل تعدّد الآراء والاجتهادات .. والسبب الأبرز الذي يمكن عزو هذا الأمر إليه، هو قلَّة العلم، وهنالك من لا يقتصر سعيه على علماء العصر ، بل تعداه ليقوم بعض (المرضى) بتتبع ما يزعمون أنه زلات علماء السلف، وأئمَّة المذاهب، بزعم أنهم رجال ونحن رجال!!


*إذن بهذا المنطق تلغي جهود العلماء ، فلا يرى لهم رأي صحيح ، ويفتح الباب لتحمل أقوالهم على أسوإ الظن، وتفسّر بسوء نيّة ثم تكتب ردود بمئات الصفحات، بما لم يقولوه، وتفسر نصوصهم بما لم يريدوه.. مما يؤكّد مرة أخرى أن منتقدي ألئك العلماء، لم يفقهوا أسباب أصل الخلاف ولا كيفية تعدّد الرّأي في المسألة الواحدة، ولا تعدّد الأفهام في الدَّليل الواحد.


*إن عدم توقير العلماء، يؤدي إلى نفور العامة من الاقتداء بهم و الاستماع إليهم ويزعزع الثقة بهم وبما يصدر عنهم ، وتزداد هجمات الانتقاص إذا أخطأ العالم في الفتوى والاجتهاد في رأي هؤلاء أو في الواقع، أو إذا اتَّبَع رأياً مرجوحاً ، دون أن يعتبروا بما نصَّ عليه الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم عن أنَّ المجتهد إذا اجتهد فأخطأ فله أجر ..


ومنابذة العلماء منافية لقوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، [النساء:59]،التي ذهب بعضُ المفسّرين إلى أنَّ أولي الأمر هم العلماء، فكانت طاعتهم واتِّبَاعهم من طاعة الله ورسوله.


ومما لا جدال فيه أن اسباب إتلاف الكتب متنوعة منها الشرعي ومنها السياسي ومنها العصبي وغير ذلك.. وأن الكتب تعاني منذ فجر التاريخ من خصومها فقد تم تدمير مكتبة آشور بانيبال، وأحرق أخناتون النصوص التي تختلف مع فكرة الوحدانية التي كان يدعو إليها، وتم إحراق مكتبة الإسكندرية ووصف بأنه اكبر كارثة حلت في تاريخ التدمير والحرق للكتب لانها كانت في زمانها من اكبر المكتبات في العالم. وأحرق الإمبراطور الصيني كين الكتب بدافع سياسيّ غرضه توحيد الصين، وحين احتجّ أربعمائة عالم على إحراق الكتب دفنهم أحياء.


وفي تراثنا أحرقت كتب ابن رشد في الاندلس في عهد ملوك الطوائف وكتب الغزالي في عهد المرابطين. وتم تدمير المكتبة الفاطمية. وتدمير مكتبة المنصور في قرطبة والقائمة تطول….


وربما مارست السلطات العنف نحو العلماء أنفسهم فيقوم هؤلاء بحرق كتبهم بأيديهم بدءً من (أبو ذر الحافظ) ثم (أبو السعود) و (الزاهد) و (الدارمي) و (الطائي) و (ابن جبير) و (الربعي) و (التوحيدي) و (القرطبي) وغيرهم من العلماء والمفكرين.


ولكل واقعة محاكمة في إطار السياق والقصد ، وسيظل اتهام العلماء والطعن فيهم أشد من إحراق كتبهم والرمزية التي تحرق الكتب أشد من وقع اللهيب على صفحاتها .. ولن يكون إحراق الكتب سبيلا أبدا الى الحرية .


فالحرية الحقيقية تعني : الممارسة الواعية لقانون الكون وقانون الشرع الذي جاء من عند خالق الكون . إنها ليست استباحة ، وإنما هي فعل الواجب الذي أمر الله به والتحرر من الأهواء ومن تسلط البعض على البعض.


إن الحرية والمسؤولية لا تنفصلان. يقول الفيلسوف اسبينوزا (ثمة من يظن الحرية والقوة في قدرته على اتباع هوى نفسه وأن في اعتباره التمسك بالأخلاق والفضائل ضرباً من القيد والأسر، غافلاً عن أن اتباع أهواء النفس هو الأسر والعبودية إن طريق الخلاص يكمن في أن نرى العبودية ضعة، فنشيح عنها بوجوهنا، وأن نلتفت إلى الحقيقة ونسعد بها، وبديهي أن بلوغ هذا المقام ليس سهلاً يسيرا) .. هذه هي الحرية ..


ولا لوم على الإسلام ، فهو لم يأت بالرق بل كان الرق نظام العالم وأساس الإنتاج الاقتصادي، وله وسائل ومداخل كثيرة : مثل المقامرة والنهب والسطو ووفاء الديون , والحروب مهما كانت أنواعها وأسبابها … فألغى الإسلام جميع هذه المداخل ولم يبق منها الا مدخلُا واحداً ، وقد ضيقه الاسلام حتى لم يعد ينفذ منه الى الرق الا القليل النادر أشد الندرة وذلك المدخل هو الجهاد في سبيل الله بشرط الا يكون الأسير وقت أسره مسلما ولو كان في جيش الأعداء وأن يجري الامام عليه الرق ..


وأختتم بالفتوى التي أصدرها مجدد القرن الإمام جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر المتوفى 1996م، القائلة : “إن الكلام في الأمور الشرعية يجب أن يكون مبنيا على الفهم السليم والدراسة الواعية لأحكام الدين، ولمقاصده وأهدافه ويجب على المتحدث أن تكون غايته الاهتداء إلى الحق والصواب، وإذا خفي عليه شيء سأل أهل الذكر استجابة لقوله سبحانه وتعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.


إذن شريعة الاسلام محددة للرق محرضة على العتق ولا لوم على الاسلام كما لا لوم على فقهاء الاسلام.



أقــــلام حرة




Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا

No comments:

Post a Comment