Friday 22 June 2012

يوميات البادية: الرحيل





ما أصعب الرحيل!


ما أعصبه من يوم أسود على الأولين والآخرين.


الرحيل أبكى الضبع (كرفاف) فأذرى الدمع على الربوع الخالية :


أهل عالي رفدو … قطعو علبين ونزلو


ما احل بزازيل عيلهم… ما احل وذنين غنمهم


ومشكلة الرحيل ,أن مسافة أبدية فيه تمتنع على التقدير بين الحاء والياء.الأمر الذي يجعل أهل البادية يشيرون إلى مكان الانطلاق دون غاية الرحلة في قولهم :


أهل فلان رفدو(رحلوا)


لكن كل ما في الرحيل من تعب ,وما يمور داخل أحداثه من قسوة وفظاظة,لا يمنع الصغار الفرحة والبهجة الجموحة بالترحل ,فعالمهم البالغ الرهافة والثراء,يكشف دائما عن سعادة حالمة وراء الغيب الملبد بغيوم المعاناة .


كان حينا مثل قريش,له رحلة الشتاء والصيف ,وترحاله طويل,لحد أنه صار أهدأ أوقاته ذلك الوقت الذي يمضيه أهله فوق ظهور العيس, يتبارون في حفظ معلقة لبيد بن ربيعة ,وتيريسية امحمد ولد الطلبة ,والإبل تغذ السير نحو أفق مفتوح تتصاعد معها موسيقى ارتطام الخطى وصوت ارتجاج الماء في براميله.وفجأة يسأل غلام غر يركب بين برميلي مياه :ما معنى فاحم التي تتردد في تلك الأبيات أو غيرها ,فيرد عليه رجل من على راحلة أمامه :


ـ معناها بيضاء بكلام الطريق .


فاللون الأسود لايجري ذكره تشاءما منه أثناء الرحلة .


يحملون عصا الترحال في أول هبوب موجات البرد , عندما يطرق الشتاء الخجول عسس الليالي ,بدفقات مترددة من البرد , يلتكأ النهار الخريفي المتسكع بعدها معتذرا بشمسه الصارمة . يتبن ذوو التجربة عندها اقتراب الشتاء , فتشيع في الجو كعطر بري كلمة الرحيل , يرجف بها بسطاء العقول من النساء والولدان , يستخبر بعضهم البعض ويتبادلون الشائعات .


عند اجتماع الرجال في أرض المسجد , وتوافد الكبار لأداء الصلاة , ترتب النساء ثلة من صغار الأطفال , جواسيسا لطفاء يسترقون سمعا لما قد ينساب بعد انقضاء الصلاة على ألسنة أعضاء مجلس قيادة (لفريك) من كلام عن زمن الرحيل .


والعائد من المخبرين بنبأ يغذي فضول الأمهات تكون مكافأته جزيلة , قطعة سكر بحجم اليد , أو كتلة من الدبس أو السمن .


يفسح كل رجل في جلسته عقب السلام وترديد الأدعية المألوفة , يتمرفق الأكبر سنا ,دافنين الأرجل في الرمل البارد , عادة الفطرة يقضي فيها الحياء بعدم تقابل المتحدثين وجها لوجه , يسرح أحدهم بصره المعافى في اتجاه قدوم الإبل , ويتلمس لحيته الكثة ممسكا أرومتها ,ثم يقول موجها الموضوع صوب أربه : الزمن في ما يظهر بان أنه يبرد .


وتبقى الجملة معلقة في الهواء لحظات كأنها سخافة تافهة , والقوم في الحقيقة يتدبرون الرد المناسب , يقول شيخ يدفن رأسه بين ساعديه :


ـ يجب أن يبدأ الناس التفكير في الرحيل .


وما إن تنسلخ أيام حتى تجمع آبال الحي ذات ضحى , وتخفض عصم الخيام , فيغدو الأفق خاويا حزينا , تنشر على الأرض لتطوى طي الأرض يوم القيامة , وتناخ الجمال لتستقبل ظهورها العصم مع الركائز والعمد .


توضع على ظهور أخرى , هوادج النساء , وأخدار الفتيات الغير متزوجات , ورواحل الرجال , وتحمل جمال أخرى براميل الماء , وأعدال الدقيق والسكر وغيره من أغذية .


برفع جميع الأغراض الثقيلة على ظهر الجمل تبقى تلك الخفيفة متفرقة مزعجة , تسعى إليه اليد الخفيفة بالتعليق في الأذيال المتدلية لرؤوس الحبال من حمل الجمل , وتكون أمتعة صغيرة , أباريق , أواني , مهارس , أسطال , لوح مسطر بالحروف الأبجدية ,أعواد ثمينة من حطب ( طازنت ).


يوم الرحيل يغضب الرجال . يرهقهم الجهد والحزم فيغدون قليلي الصبر كثيري الصراخ , ينهرون الصبيان , ويكلحون في أوجه النساء , ويستحثون للعمل الزوجات والأخوات .


يتجاوزون الحد أحيانا , فيطلقون الشتائم في الجو, ويفرغون الموجدة والسخط على الدواب , ويصرخون ويولولون .


كانت النساء لحيمات شحيمات , وليس يستطيع جمل الهودج الوقوف بهن , فلذالك لابد من أن يوقف الجمل أولا , ويقف رجل ملتحما بعضده ومن ثم تصعد المرأة مرتقية منكبه إلى هودجها بسلام ,


أما الرجال الأشداء , فقدرهم السير , ولاغرو , فأرزاقهم تحت أعقابهم . لا يعلو ظهور الجمال سوى الصغار وكبار السن والنساء . يمضي الظواعن وأمامهم تساق غابات من الإبل . ويتواصل الرحيل حتى الهجير الأخير , صكة عمي , فينزلون لترتاح الإبل , بعد جأر الأطفال بالشكوى واستسلام الشيوخ اعترافا بالتعب .


وعند العصر يرحلون , حتى تصعد إلى السماء كل النجوم .


إنه حي يجوب البلاد من شرقها إلى غربها , من آفطوط حتى فاي ,على مشارف آدرار , دربهم طويل , وقد أكلت إبلهم شرقا القتاد والميس , وأكلت غربا الثمام والبشام و( آسكاف ) فاستحالت إبلا لا شرقية ولاغربية , نبت هنا وعاشت هناك , ومثلها أهلها .



أقــــلام حرة




Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا

No comments:

Post a Comment