منذ ثمانين سنة خلت والعالم المتمدن يزداد اشفاقا وانشغالا جراء واقع تختص به فئة كاملة من المجتمع الموريتاني ..، لقد تعرضت حياة أجيالها السابقة لهدر دونما حساب، كما عاني أجدادها من وطأة العمل القسري والسخرة وبقوا طويلا في يدي أجهزة الإنتاج القبلي والإقطاعي الذين يعيشون فيه..، واليوم يعدم أغلب المنحدرين من تلك الشريحة المنافذ الكفيلة بتحقيق مشاركتهم الفاعلة في شؤون الوطن. كما يخيم النسيان والإهمال علي حقوقهم المدينة، وفي أحايين كثيرة تتلاعب الإدارة العمومية بالقوانين الخاصة بضحايا يألمهم كثيرا تنكر الأعراف الاجتماعية لأدميتهم وإخوتهم الإيمانية يقول تعالي: “إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم”.
ان الواقع الاجتماعي المعاش يؤكد ان هذه الأوصاف والمظاهر إنما تنطبق علي شريحة “لحراطين” دون غيرها، مع إقرارنا باستثناءات اجتماعية أخري.
ومع طول المرارة وتجرع الخيبات الطويلة يتضح ان كل ذلك لم يسرع بها لاتخاذ العنف او المجابهة البدائية سبيلا الي الانعتاق او الانفصال، كما ظلت إفرازاتها الرافضة قيام “اخوك الحرطاني” 1978، وحتى ميلاد الحركات الاحتجاجية الجديدة بما في ذلك المبادرة الانعتاقية سنة 2008.
لقد ظل نضال “لحراطين” عامل محافظة لا مصدر بعثرة او فتنة دينية او عرقية، عكسا لمضامين حملات التحريضية التي تتكرر هذه الآونة بأشكال وألوان مطابقة، وان كان التكفير ابرز مظاهرها.
لقد مر الكفاح الوطني ضد العبودية كغيره من النضالات الرامية الي التمكين لدولة القانون والحق والديمقراطية، بمراحل من النمو والتطور ضرب خلالها المناضلون –دون استثناء- المثال الحي علي الصبر والانتماء الوطني.
وفي سبيل مهمة صعبة كهذه لا مناص من ان يدفع المرء ثمن مواقفه وآرائه وهو يتلمس الغدر من سجانيه في مقولة “نلسون مانديلا” (أسامح وانسي/ Pardonne et oublie)، ما دام يحس بان أفكاره قد بدأت تتسلل سريعا الي أعماق الضمير الشعبي، وانه برغم العراقيل المؤسساتية فإن الطريق الي الانعتاق والمساواة قد بات ممهدا لقيام أنماط جديدة من العلاقات السوية بين الناس الذين يتوجب علينا غرس الشعور بالفخر والمواطنة في نفوسهم.
وعندما يجد المرء نفسه محاصرا بحكومات تمتهن التنكر حتى الرمق او الانقلاب الأخير للمستعبدين داخل الجمهورية، وأعراف اجتماعية بالية يجاهد المجتمع التقليدي للإبقاء علي أسرار روابطها القرابية..، فعليه ان يختار حضن الضحايا والعمل علي تخليصهم ولو اقتضي ذلك منه ان يفقد حياته.
لقد وجدت نفسي منذ بضع سنوات، اعتني في معالجتي بجوانب البؤس التي يرتع فيها العبيد باحثا عن مستقبل براق للأطفال والمراهقين المنحدرين من اسر سبقت أبناءها لتجرع الدونية في محيط منحاز الي ملاك العبيد.
ومهما يكن فان ادعاءات الأسياد القدامى بشان روابط الخؤولة او المساكنة لا يمكن ان تشفع لأصحابها بالاستمرار في استغلال الأطفال حتى وان كان الإملاق يدفع بأمهاتهم البائسات الي التخلي عنهم لصالح اسر لها حظوة من مال وجاه، فإن الانطباع العام إنما يوحي بعبودية يتم تغليفها بشكل مستحدث اقرب ما يكون الي الإعارة، والمثل الشعبي يقول “أعطيني ولك يلعب بيه ولي”، فكيف يحصل للصغير حينها غير الاستغلال البشع؟، وهدر للطفولة، حين يفتح عينه ضمن حالة غير صحية ولا تنم عن الإيثار او التعاضد الأسري الطبيعي الذي يفتقده وسط بيت يسكن الكسل والاتكال كافة أفراده.
وهل يمكن لصبي كهذا ان يبني مستقبلا؟ وهو يفتقد في الغالب الي وثائقه الثبوتية التي تمكنه من ولوج المدارس العمومية. إنه يخدم أصحاب البيت، وهو “مرسال” بين المكبوتين، وهو بين أترابه مجرد منديل “كلينكسي”، في حين تكوين إخوته “في الرضاعة المزعومين مقيدون في أفضل المدارس الخاصة حيث التنافس علي مستقبل انسب”.
وغني عن القول ان العائلات الروحية والدينية والمشيخية وغيرها من الأسر التي تشترك في تعليق نياشين الفخر وشارات الشرف، إنما تتنافس علي استقدام الأطفال وتداوم استغلالهم واسترقاقهم، مما يبعث في نفس الضحايا المذلة، ويغرس في قلبه الحقد والكراهية منذ الصبي..
والطريف في الأمر هو تفاجأ الفتي سعيد (11 سنة) حين مثوله لدي وكيل الجمهورية بسيده المدان وهو ينكر معرفته بعبده الصغير أصلا، فما كان من الفتي إلا ان رد عليه: “سيدي الكريم الم تعلمونا ان الأشراف لا يكذبون ولا يجبنون”.
بالنسبة لساكنة أدباي (ما) تغيب التنمية القروية وتنعدم المدارس، ويهاجر الصغار باكرا الي المدينة حيث تستقبلهم بوابات البيوت، ولطالما كانت جهات واسعة نسيا منسيا من عملية التنمية، وكمثال علي ذلك نذكر (ادوابه) الكائنة في نطاق مثلث الفقر داخل تلك الأوساط يكون امتلاك “ثور واحد” كفيلا بحسم المكانة الاجتماعية والسياسية داخل ساكنة يتزايد تهميشها وحرمانها.
ولئن لم يظهر هؤلاء المساكين الرفض القوي والسخط الكفيل بإطلاق الشرارة ضد المتكالبين علي أصواتهم وخيرات مناطقهم الخصبة..، فان مرد ذلك يعود، وإنما يعود الي حسن ظنهم بالدولة الموريتانية، وهو نفس التصور الذي يجعل الي حد الساعة نضالات حركات الانعتاق ومنظمات مناهضة العبودية يبقي مستظلا في الداخل في الوقت الذي فشلت فيه كل محاولات الربط بالخارج…لقد ظل نضال “لحراطين” نظيفا ومتسامحا ومتصالحا.
وانه لمن المستحسن ان لا تنسي الأجيال المتعاقبة أول داعية للحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية في هذا البلد وهو العميد لويس هنكرين ” Louis Hunkrin” الذي ظل خلال إقامته الجبرية في موريتانيا (1923-1933-) رائدا كبيرا في مجال مناهضة العبودية والسياسات الاستعمارية التي كانت تغض الطرف عن خطف الأطفال واستخدامهم كرقيق، ان دور هذا المناضل الأممى لجدير بان تفرد له الرسائل الجامعية والمقالات الصحفية.
لقد عاب هنكرين علي الأسياد من مجموعة “البيظان” عدم تعودهم علي العمل في الحقول وإعداد واجباتهم بأيديهم دون اللجوء الي العبيد، واستحق ان يكون أول من عمل علي إنقاذ العبيد المهانين من قبل أسيادهم، وحصل بالفعل علي تحرير عدد منهم خلال إقامته الجبرية سنة 1930 بمدينة تجكجه.
ان سجن وقمع وإسكات المناهضين للظاهرة واعتماد سياسة الحظر وكبت الحريات يستمد مشروعيته السافرة من وعيد احد رؤساء الجمهورية الذي صرح علنا منذ سنين انه “لن اسمح بظهور محرر للعبيد في موريتانيا…”.
سيدي الحاكم: “يمكنك ان تدوس الأزهار ولكنك لن تؤخر الربيع”، ومع ذلك فأنت إنما تعبر عن احدي تجليات التمنع ليس الا…
اللهم اني اسامح وانسي.
عبيد ولد اميجين السجن المدني
20/06/2012
Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا
No comments:
Post a Comment