كلمة الإصلاح هذه المرة ستتوجه إلى آباء هذه اللغة العربية التي جعلها المولى عز وجل وعاءا لهذه المعجزة الكبرى والحاملة بسعة متناهية لتفاصيل هذا الدين الإسلامي الذي يعتنقه كل مسلم سمع مناديا ينادي للإسلام فلبي ذلك النداء قائلا ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فأغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار .
فكلمة الإصلاح توجهت لهؤلاء الآباء الذين وأدو هذه اللغة لتنادى عليهم بأعلى صوتها بقوله تعالــى ( أ تستـبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير )) اهبطوا إلى حضيض السلوك اللا أخلاقي الذي يعبر عنه قوله تعالى : (( بيسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين )) .
إن المتأمل لسلوك الساسة الموريتانيين في شأن هذه اللغة العربية ليتعجب من هذا الخور المميت لهؤلاء الساسة الذين عجزوا ولمدة 50سنة عن إيصال هذه اللغة إلى ما تستحقه عليهم وطنيا ودينيا وانتمائيا وجغرافيا من الاعتزاز والترسيم وإثبات هويتها الوطنية ، وتشبـثهم القاتل بلغة أجنبية لا يربطهم بها إلا أن أهلها استعمروهم استعمارا قاتلا حرموهم فيه من أبسط الحياة المدنية الراقية التي منحوها لجميع الجوار المستعمر باسم المفعول .
ومن المفارقات لهذه السنة بالذات أن الدولة بدأت تحيي في إذاعتها وتلفزتها جهاد أبطال المقاومة الموريتانية وتنعت الاستعمار بكل وحشية وغدر وخيانة وتنعت أبطال المقاومة بكل بسالة وبطولة وتضحية في سبيل الوطن ومع ذلك في هذه السنة بالذات نفسها هي التي فتحت فيها جامعة انواكشوط شعبة تخصص للاقتصاديين و90% منهم حصلوا على “لسانس” باللغة العربية ومع ذلك فتحولهم شعبة التخصص باللغة الفرنسية وحدها قائلين لهم اسمعو أو لا تسمعو وافهمو أو لا تـفهمو إنما نحن قوم طلبنا العزة بلغة المستعمر فأذلنا الله في وطننا بهذه اللغة الأجنبية الهرمة التي أصبحت عبئا على أهلها ورمزا للتخلف العلمي والثقافي والحضاري ومع ذلك نجبر أبنائـنا على التهجي بها كأنهم أميون بعد حصولهم على شهادة عليا بلغتهم الرسمية الوطنية القرآنية مع العلم أيضا أن 90% من هؤلاء الخريجين تخرجوا من الجامعة أيام كانت اللغة العربية في الجامعة هي لغة الأدب والاقتصاد وغير ذلك من المواد الفنـية والعلمية .
وإن أكبر إهانة لهذا الوطن ولأبنائه وأعظم سخافة وخفة في عقول ساسة هذا الوطن أن يقوم هؤلاء الساسة بإجبار جيل من الأبناء لمدة عشرين سنة على الدراسة بلغة وطنهم الرسمية ثم يجبرونهم على التخصص بلغة أجنبية استعمارية لا ذكر لها في دستور البلد .
ولذا فمن الغريب أن يعـمد المقـنـنون للدستور سنة 92 إلى التجاهل الكامل عن ذكر اللغة الأجنبية ويتعمدون عدم ذكرها في الدستور ويكتبون المادة السادسة من الدستور بالنص كما يلي : اللغات الوطنية هي: العربية ـ البولارية ـ السونكية ـ الولفية : اللغة العربية هي اللغة الرسمية .
ومن المعلوم أنه لا معنى لهذه المادة التي تنص على رسمية اللغة العربية إلا العمل بها في جميع الدوائر الحكومية وقصر كل ما يصدر عن هذه الدوائر على هذه اللغة .
ومن هنا واستدلالا على سخافة وخفة عقول السلطات التـنـفيذية المتعاقبة على هذا البلد أن شجاعتهم إذا كانت موجودة لم يستطيعوا بها تعديل هذه المادة إلى الواقع المعيش من ترسيم اللغة الفرنسية وتجاهل اللغة العربية أو يستعملوا هذه الشجاعة وهي طبعا غير موجودة هنا في إجبار الدوائر الحكومية على تنفيذ ما جاء في هذه المادة من ترسيم اللغة العربية في الدوائر الحكومية وفتح المجال للغة الأجنبية أيا كانت فيما سوى الدوائر الحكومية من ثـقافة وتعليم حر وغير ذلك من النشاطات التي لا تمس بسـيادة الدولة .
إن هذه السياسة المتذبذبة في قضية سيادة الدولة المتعلقة بلغتها الرسمية الوطنية الإسلامية حان لها أن تـنـتهي .
فدور النعامة وهو دفنها لبصرها في الرمال عند رؤية الخطر لا ينفع في تجنب هذا الخطر .
فموريتانيا عند استـقلالها لا شك أنها كانت مضطرة لاستعمال اللغة الفرنسية في دوائرها الحكومية إلا أن سياسيــيها آنذاك كانو فرنسيو اللسان عقلاني التوجه العربي الرسمي والديني .
ولذا فعندما اعترف بهم عربيا توجهوا إلى الجامعة العربية وانتسبوا إليها وأعلن رئيس الدولة آنذاك المرحوم المختار بن داداه أن دول المغرب العربي قبل إنشاء المنظمة لا تعنى تونس والجزائر والمغرب فقط بل تعني كذلك موريتانيا وليـبـيا .
فجميع الساسة الموريتانيين في العشرينات الأولى من الاستقـلال كانو في جميع الشرائح الموريتانيين من العقلاء والحكومات آنذاك لا يعين فيها من أي شريحة إلا الكوادر العقلانيـين ولو بدون أي شهادة عليا لأن الإنسان لا يفكر بشهادته بل يفكر في محيطه الاجتماعي أولا والعدالة الطبيعية ثانيا وقراءة الواقع والاعتراف به ثالثا وهذا ما كان يسير عليه الجيل الأول وتـتـفهمه كل الأعراق بعقولها الكبيرة آنذاك .
ثم خلف من بعدهم خلف عسكري من جميع الأعراق أضاعوا الوطنية واتبعوا شهوات العرقية والقبـلية ، وأصبح كل فريق يفكر بهذا الفكر الأعرج لا يؤمن بالأغلبية الثقافية ولا يؤمن بالإجماع الديني الذي انتبه إليه الساسة الأول وأطلقوا علينا بسببه اسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية .
وبما أن كلمة الإصلاح هذه تعنى وأد اللغة العربية من طرف آبائها في وطنها وهذه اللغة العربية هي جزء من هذا الإسلام الذي اجمعوا على تسميتـنا به جميعا فإن أبناء أولئك السادة العقلاء قد أجمعوا بعدهم على وأد هذا الجزء من الإسلام المتمثل في اللغة العربية .
والفرق الشاسع بين الأولين والآخرين في هذا الصدد يتمـثل في أن السادة الأولين كانوا بعد الاستقلال الذي جاءوا به حضاريا من بعـيد كانوا يتمثلون السيادة ويهرعون إليها ولا يـثـنيهم عنها أي طارئ .
ففي العشر الأول من الاستـقلال صعد التعليم العربي في الدولة من الصفر إلى أكثر من50% وبدأت اللغتان مثل علمي الاستعمار والاستـقلال ساعة إعلان الاستـقلال إحداهما تنزل والأخرى تصعد ، وصدرت الأوامر آنذاك إلى بعض الوزارات التي يمكنها آنذاك أن تعمل بالعربية أن تقوم بذلك فورا مثل وزارة التعليم والعدل والثـقافة ولا معترض آنذاك لأن الآمر آنذاك رجل شهم عاقـل لا يقبل التدخل في السيادة ولأن المأمور آنذاك أيضا شهم عاقل يميز بين ما هو من السيادة وما هو من غير السيادة ولا سيما مع كل ما له صلة بالإسلام مثل اللغة العربية .
ومن هنا ينبغي أن نذكر بأن الرئيس الموريتاني عندما زار جزائر بومدين قبل خلافه معه أعجبه الأوامر الصادرة التي أعطاها بومدين لإدارته حيث أمرهم بتعريب جميع الإدارة وما يتصل منها بسيادة الدولة وقد حمل الرئيس الموريتاني معه من تلك الزيارة كثيرا من الشكليات المعربة وأعطاها للوزارات التي تعنيها ومن المعروف أن الجزائر أعمق وأعلم منا باللغة الفرنسية حتى أصبحت بسبب الاستعمار كأنها من اللهجات المحلية لنطق الجميع بها ومع ذلك لم تـشـتـبه عليهم هي مع لغتهم الوطنية الرسمية الدينية مع أنهم ليسوا جميعا ناطقين بالعربية ولكنهم مسلمون .
أما سياسيو موريتانيا المتـأخرين فجعلوا اللغة العربية مثل كرة القدم جاء الفريق العسكري سنـة 82 وأنجبها إنجابا قيصريا باجتهاد باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب وهو التفريق في لغة التعليم بين المواطنين المسلمين .
فقرر أن كل من كانت العربية لغة أمه فعليه إجباريا التعلم بالعربية ومن كان غير ذلك فالعربية بالنسبة له اختيارية إن شاء تعلم بها وإن شاء تعلم باللغة الفرنسية ولم يتذكر هذا الفريق (العاقل) أن الدين هنا لم يجعل هو القاسم الجامع الموحد المشترك وأن اللغة الأجنبية هي القاسم المفرق وأن وجود الدين داخل اللغة العربية هو المرجح الأوحد في إجبارية التعلم باللغة العربية على الجميع لأنه الجامع للجميع .
وبعد هذا الاجتهاد الهزيل المفرق الذي طبق في التعليم ولم يطبق في الإدارة بل تركت فرنسية كلها ، فكان من الواجب أن يقرر مع ذلك أن كل وزير لغته الأم عربية لا يصدر عنه حرفا واحدا من وزارته إلا باللغة العربية ويترك للوزير الذي لا لغة لأمه مكتوبة عنده الحرية في الاختيار في إدارته بين اللغة العربية والأجنبية وذلك لضمان حقوق هذا الجيل الذي أجبر على التعليم بالعربية فإذا لم يواصل دراسته لأي سبب فيكون عنده مقابل ما وصل إليه من التعلم مجال في الإدارة يمكنه من أن يعيش بعمله في تلك الإدارة فهذه الفرصة أتيحت للمتفرنسين فقط من أصحاب التعليم المحدود بل إن الكارثة العظمى هي أن هذا الجيل الذي أجبر على التعلم بهذه اللغة اصطدم بقرار الفريق العسكري سنة 99 الذي دفـن بقوة ما اكتسبه جيل الثمانينات والتسعينات والألفين من التعليم الثانوي والجامعي بلغة وطنه وتركت هذه الأجيال للتجارة والأعمال الحرة وغير ذلك من ما لا صلة له بالدولة ولا بالمؤسسات الخصوصية .
فإجبارهم على التعلم بتلك اللغة في تلك العقود جعلهم أيضا مجبرين على أن يكونوا عاطلين عن العمل في العقود القادمة ، وقد صرحت لهم السلطة بذلك الآن بعدم فتح أي تخصص باللغة العربية .
إن الوضع الموريتاني الحالي مع هذه اللغة يشـبه بمن عنده سلع مغشوشة غير صالحة للبيع فيكتب فوق غلافها عناوين سلع معـروف لدى الجميع جودتها وصحتها ورواجها.
فجميع الوزارات والمؤسسات العمومية مكتوب عند مدخلها عناوين كبيرة بالعربية تعرف بها وعندما يري داخلها فسيجد أيضا كثيرا من العناوين فوق الاستمارات مكتوبة بخط واضح في أعلى الورقة وبعد ذلك لا يرى مكتوبا ولا منطوقا به إلا اللغة الفرنسية وتارة تكون ركيكة فصاحبها إذا كان كبير السن معنى ذلك أنه لم يتجاوز الإعدادية وإذا كان صغير السن فمعنى ذلك أن له شهادة عليا بالعربية ولكن جاءت به الوساطة إلى هذه الوظيفة المتواضعة ولم يجد العربية أمامه فنطق وكتب بلغة القوم في المكاتب على علاتها.
وأنا هنا أهنئ النواب البولاريين والسونكيين الذين تكلموا بلغتهم الوطنية في أعلى مؤسسة تشريعية في الدولة ومقابل ذلك أوجه هذه الملاحظة لكل البرلمانيين:
إذا كانوا يقومون باستجواب السلطة التنفيذية على مخالفتها للقانون فلماذا لا يوجهون مساءلة لأنفسهــــم: لماذا يتركون بعض النواب يتكلمون بلغة أجنبية في المؤسسة التشريعية ؟ ولماذا يكتبون في إدارة هذه المؤسسة بلغة أجنبية غير مذكورة في الدستور؟ .
إن قضية اللغة العربية الموءودة في وطنها وبين معتـنـقي دينها لهي أولى بفتح حوار فيها قبل كل مشكلة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية .
إن الجوار الشمالي الذي فضلنا الانضمام لكل منظماته هو أكثر منا معرفة باللغة الفرنسية ولكن يعرف أنها لغة أجنبية ولم يدخلها في دوائره السيادية بل تـثـقـف بها إلى النخاع لكن قصر استعمالها على الحاجة فيها عندما تكون العربية غير مفهومة للمخاطب الأجنبي أو يريد التوسع بها في العلوم الأخرى غير العمل السيادي .
وفي الأخير فإني أجيب عن هذا السؤال إذا طرح علينا نحن الموريتانيين يوم القيامة عن هذه اللغة العربية الموءودة بأي ذنب قـتلت ؟ فنقول قتلت لجهل آبائها جزء من الدين وبما أودع الله فيها من التعبير الفني عن كل ما يمت إلى الحياة بصلة ولتفوقها الحضاري الراقي الضارب في أعماق التاريخ والذي يلخصه قول الشاعر المرحوم حافظ إبراهيم على لسانها:
وسعـت كتاب الله لفظـــاً وغايـــــــــة ** وما ضقتُ عن آي به وعظات
فكيــــــف أضيق اليوم عن وصف آلة ** وتـنسيق أسمــاء لمخترعــات
ولا حول ولا قوة إلا بالله
Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا
No comments:
Post a Comment