الرأي قبل شجاعة الشجعان…هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حـرة … بلغت من العلياء كل مكان
أبو الطيب المتنبي
أوحي أم رأي؟
“أوحي أم رأي يا رسول الله؟” سؤال طرحه أصحاب النبي الأمين محمد بن عبد الله عليه بينما كان يضع الخطوط الكبرى لأول معركة حاسمة في الإسلام. وبرغم كونه قائدا عبقريا ونبيا مرسلا يأتيه الوحي من لدن حكيم خبير؛ فإن أصحابه المصدقين المؤمنين لم يتركوه يعمل ما يراه، بل سألوه وناقشوه، وفي نهاية الأمر ألغوا خطته لما أخبرهم، وهو الصادق الأمين، أنها رأي لا وحي! وعندها تدخل خبراء الحرب، أصحاب الشأن، فوضعوا خطة تحترم قواعد الحرب التي توصلت إليها البشرية يومئذ، وتبتكر الإضافات التي تخلقها ضرورات وظروف تلك المعركة المحددة التي تميزت بعنصر تفوق جيش المشركين في العدد والعدة على المسلمين، والذي يجب أن يحسب له حساب في الخطة!
فما هي الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها اليوم من هذه الحادثة التاريخية المشهورة التي توقف عندها بإعجاب وتدبر كافة المؤرخين والمفكرين والمصلحين والقادة؟
يمكننا استخلاص ما يلي:
ـ أنه إذا كان الرسول الكريم وأصحابه قد أخذوا في أمور دنياهم بالرأي عندما لا يكون وحي. وحكّموا واتبعوا القواعد العامة التي توصّل إليها العقل البشري، ثم اجتهدوا وابتكروا الحلول الملائمة للمشكلات الخاصة التي طرحتها ظروف المعركة المحددة التي يخوضونها. فما بالك بمن يعيشون في مطلع القرن الواحد والعشرين، وقد انقطع وحي السماء عن الأرض منذ أربعة عشر قرنا وتزيد؟
ـ أنه في غياب الوحي والرأي (العقل) معا، يستحيل أن توجد إدارة صحيحة وناجحة لأي مشكلة، وخاصة إذا كانت مشكلة اجتماعية معقدة كتدبير شؤون الثورة والسلطة والدولة. فـ”قاطرة التقدم في أي مجتمع من المجتمعات هي عقل الإنسان أولا. لا الإمكانيات المادية والثروات المتوفرة لهذا المجتمع. فإذا كان عقل الإنسان مغيبا فإن المجتمع محكوم عليه بالتخلف” كما يؤكد عليه، بحق، الأستاذ شريف الشرباشي.
ـ أن الرأي -وقد انقطع الوحي- لا يكون رأيا إلا إذا كان نابعا من معرفة عميقة ووعي شامل ودراية واسعة بتاريخ البشرية، وتاريخ البلد المعني، وواقعهما، والدروس المستخلصة من التحولات الكبرى التي عرفاها. أما ما يصدر عن الهواة والوصوليين من لغو هدفه الوصول إلى السلطة كوسيلة لنيل نصيب أوفر من الغنيمة، فلا يمكن أن يسمى رأيا؛ بل هوى وتضليل!
“وإذا أتى الإرشاد من سبب الهوى… ومن الغرور، فسمه التضليلا”
غياب الماضي والحاضر في صنع الحاضر والمستقبل!
من أبجديات السياسة -وهي علم وفن- أن يمتلك الحزب، أيا كانت طبيعته، برنامجا يحدد فيه أهدافه النهائية (إستراتيجيته) وخططه المرحلية (تكتيكاته) لبلوغ تلك الأهداف. ومن أجل ذلك -وليكون حزبا جديا يعتمد على العلم وينبذ الحرفية والشعوذة- يجب عليه أن يمتلك تحليلا اقتصاديا واجتماعيا صحيحا، وإلماما واسعا بتاريخ وثقافة البلاد؛ وأن يحدد انتماءه الاجتماعي!
وإذا وضعنا جانبا غياب التحليل الاجتماعي في ممارسة جل الأحزاب الوطنية، وانتماءها الاجتماعي المشوش، وإهمالها للاقتصاد الذي هو عصب الحياة، فسنجد أيضا أن إلمامها بتاريخ بلادها واتكاءها عليه، ليس أحسن حظا من غيره! ناهيك عن تخلف بعضها الثقافي الفاضح.
لذلك قلَّ من بين تلك الأحزاب من يولي اهتماما لتاريخ المرابطين، أو لحركات ناصر الدين والإماميين، أو لملحمة المقاومة والاستقلال والتأسيس والبناء مثلا! وهي المراحل الأبرز والأهم في حياة موريتانيا، والتي من ملامحها:
المرابطون:
يحيى بن إبراهيم الجدالي وعبد الله بن ياسين الجزولي (قائد وفقيه يؤسسان ويقودان حركة إصلاحية تهيئ ظروف قيام دولة قوية: دفع الزكاة والعشر لبيت المال، بناء وتسليح الجيوش، والإنفاق على طلبة العلم).
أبو بكر بن عامر (الجهاد شمالا ضد قبائل الأطلس وفتحها، وجنوبا ضد إمبراطورية غانا وفتحها، التنازل الطوعي عن المُلك في سبيل الله والوطن). أمير المسلمين يوسف بن تاشفين (بناء مراكش واتخاذها بعد فاس قاعدة للملك، تفقد الرعية ومحاسبة الولاة ونشر العدل وضرب العملة والإصرار على القضاء على كل ما من شأنه أن يهدد الدولة من ثورات نائمة في طنجة ووهران والجزائر، نصرة الأندلس والنصر على الإفرنج في الزلاقة، بناء إمبراطورية مترامية الأطراف تمتد من الأندلس وجزر البليار شمالا إلى مملكة غانا جنوبا ومن الجزائر شرقا إلى المحيط الأطلسي).
حركات الزوايا:
أ. الإمام ناصر الدين (ثورة ضد الفساد والطغيان والمؤسسات الاستعمارية وتجارة الرقيق: “إن الله حرّم على من يلي أمور الناس نـهب أموالهم وسفك دمائهم واسترقاق رقابهم. وإنما أوجب عليه رعايتهم وحمايتهم من كل الآفات. إن الله سخر أولي الأمر للرعية ولم يسخر الرعية لأولي الأمر”.
«Dieu ne permet point aux roys de piller, tuer ni faire captifs leurs peuples, q’il les a au contraire pour les maintenir et garder de leurs ennemis, les peuples n’étant point fait pour les roys, mais les roys pour les peuples. » ،
جهاد وفتح في موريتانيا مَهْد الحركة وفي مناطق واسعة من السنغال أيضا. ولكن ناصر الدين وإن كان قاد حركة إصلاحية كبيرة مماثلة لحركة المرابطين، فإنه لم يكن كابن ياسين في الحزم وفي فرض الزكاة والعشر لبيت المال وبناء وتسليح الجيوش وتنظيم الأنصار؛ كما أن انتشار حركته كالنار في الهشيم – وخاصة في السنغال- جعلها في مواجهة مباشرة مع الفرنسيين، وشغلها كذلك عن امتلاك سياسة صحيحة من شأنها تحديد الأعداء والأصدقاء، وتفعيل جميع القوى الاحتياطية، والعمل على شق جبهة الأعداء وتحييد من يمكن تحييده منهم؛ الشيء الذي أغرق تلك الحركة العظيمة في صراع داخلي ومواجهة خارجية في آن، مما عصف بها وهيأ شروط القضاء عليها).
ب. “الإماميون”: عبد القادر كان، سليمان بال، الحاج عمر تال. وهم أئمة نشروا الدعوة والإصلاح في الفوتيين وحاربوا الوثنية وبنوا إمبراطورية إسلامية وتصدى بعضهم لمقاومة الاستعمار على خطى الأئمة ناصر الدين (غربا) وعثمان فوديي وأحمدو لوبو (جنوبا وشرقا). وكان الإمام عثمان فوديي قد بث دعوته شعرا واعتمد على الشباب والنساء في نضاله الإصلاحي وأقام حكما إسلاميا في بلاد الهوصة دام مائة سنة؛ حيث وضع نظاما إداريا متقدما ووحد البلاد تحت راية واحدة، وجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية. وكذلك فعل أمير المؤمنين الشيخ أحمدو لوبو في بلاد مالي؛ الذي دعا إلى الإصلاح طيلة عشرين سنة وطبق الشريعة في دولته، فأنشأ بيتا للمال وأقام نظاما عسكريا للدفاع عن الدولة، وعين الأمراء في مختلف إمارات الدولة، وقسم العاصمة “حمد” إلى سبعة أحياء يشرف على كل حي من أحيائها قاض، وعين قاضي القضاة على رأس هؤلاء الحكام، أما بالنسبة للجهاز السياسي للحكم فهو مجلس الأربعين الذي يرئسه أحد مشاهير العلماء وكان أمير المؤمنين عضوا فيه، وكان يفوض الكثير من سلطاته إلى زملائه أعضاء مجلس الأربعين).
ملحمة المقاومة والاستقلال والتأسيس والبناء برموزها الثلاثة:
أ. محمد لحبيب ولد أعمر ولد المختار: ملك عادل يحب العلماء والصالحين أقام العدل وطبق الشرع وجاهد ضد النفوذ الفرنسي في السنغال، وكانت له أيام حربية مشهودة مع الفرنسيين بقيادة الجنرال فدرب كادت تقضي على وجودهم بسان لويس، وكان زواجه من ملكة والو “جنبوت” حلقة أساسية في سياسة العزل والحصار التي فرضها عليهم ومعلما من معالم وحدة المصير التي تربط المملكتين والبلدين. وقد علق رينو دي سان جرمان (Renault de Saint – Germain) على ذلك الزواج قائلا: “إن هذا الزواج الذي سيضع يوما ما تاج هذا البلد على جبين ملك من البيظان، والذي وضعه عليه في الحاضر، يفجر القاعدة الأساسية التي كانت تحكم المستعمرة، ألا وهي حياد الضفة الشِّمالية للنهر أثناء صراعاتنا المتكررة مع البيظان… إن سيطرة البيظان على والو قد تتبعها سيطرتهم على معادن الملح بكنجول، وسان لويس التي ستكون محاصرة من جميع النواحي ستسقط لا محالة”. (ص 257 مملكة والو بوبكار باري).
ب. أحمدو ولد حرمه: فجر الوعي الوطني في مستعمرة موريتانيا بترشحه ضد إداري فرنسي من أصل جزائري يدعى رازاك. ولما فاز بمقعد المستعمرة بادر بإلغاء مجموعة من الفروض الاستعمارية التي كانت ترهق المواطن الموريتاني! ورغم أفكاره الوطنية فإن الدعم الواسع الذي لقيه من بعض القبائل جعله يخضع لتأثيرها القوي. فلم يعرف كيف يستثمر نجاحه في توسيع وتنمية الحركة الوطنية وفي مواجهة الضغوط الاستعمارية، ودخل في صراعات جانبية وتصفيات حسابات أنهكته وشتت شمل الحركة الوطنية الوليدة.
ج. المختار ولد داداه: قاد مسيرة الاستقلال بنجاح، وأسس الدولة، وبنى مؤسساتها، وحارب الفساد، وحظر الجمع بين السلطة والمال. ولكنه ارتكب خطيئة الدخول في حرب الصحراء التي أطاحت به وبالدولة ومهدت لخراب الوطن.
وهم انتشار عدوى “الربيع العربي”!
كانت بلادنا قد خرجت للتو من كبوتها بعد مخاض عسير. ولم تأل بعض القوى السياسية جهدا في العمل على حرفها عن مسار الانعتاق والإصلاح الذي انتهجته؛ بل ذهب الزيغ ببعضها إلى حد التوسل إلى القوى الأجنبية كي تتدخل لتثنينا وترجعنا إلى بيت الطاعة الغربي. ذلك أننا كنا أول دولة في المنظومة العربية الأمريكية تكسر القيد وتطيح بالطاغوت وتطرد سفارة إسرائيل، وتجري إصلاحات بالغة الأهمية تضع معالم الانتقال إلى الديمقراطية والتنمية والحكامة الرشيدة. وكان أمامنا – والحالة تلك- الكثير مما يجب إنجازه وينتظر أن تضطلع به – مجتمعة- القوى الحية في البلاد صاحبة الحق والمصلحة في التغيير المنشود! أما القوى الآفلة فكانت مهزومة ومأزومة ومرتبكة وحائرة! وفجأة اشتعلت الثورة ضد أنظمة بالية في تونس ومصر واليمن، وعصفت بحلقات أخرى من تلك السلسة، وابتسم الربيع العربي في تلك البلدان قبل تصويحه، فخطف وهج نَوْره أبصار وعقول متعاطي الشأن العام (وخاصة أولئك الذين فقدوا امتيازات، والذين يبحثون عن أخرى لما يجدوها) وظنوا أن الفرصة سانحة للصيد في المياه العكرة، وأن ثورة على الأبواب يسهل ركوبها لتحقيق مآرب أخرى.
وبدلا من مواصلة السير في نهج الإصلاح المتاح وتضافر ووحدة الجهود في سبيل حماية ما أنجز والسعي إلى إنجاز ما يجب ويمكن إنجازه، تعالت صيحات بعض القوى معلنة ميلاد الثورة ووصول الربيع العربي إلى البلاد، ومطالبة برحيل الرئيس محمد ولد عبد العزيز. ثم طفقوا – في غياب الشعب و”نيابة” عنه- يغزلون خيوط أزمة ثورية مصطنعة، فنظموا التظاهر والمسيرات والاعتصامات المطالبة بإسقاط النظام وحرض بعضهم على العنف، ودفع ببعض الشباب إلى الانتحار حرقا. ورفعوا ألويتهم وشعاراتهم في كل مكان؛ مستخدمين “بلاغة المبالغة” والغلو الجوفاء ذات اللونين: الأبيض والأسود:
“موريتانيا في وضعية صعبة للغاية، وإنها تمر بأزمة خانقة يعاني منها جميع المواطنين الموريتانيين بكافة أطيافهم، والمخرج الوحيد منها هو رحيل النظام الحالي الذي لا بد أن يرحل”.
“نؤكد أن كل المبررات والدواعي متضافرة اليوم للمطالبة برحيل النظام المتصف بالأحادية والتسلط وغياب التشاور مع الفرقاء، وتضييع مصالح الناس، وتفشي الفساد والمحسوبية في أجهزة النظام، واستفحال ظاهرة القمع والتعدي على حرية الناس، وانتهاك حرمة القضاء واستغلاله في تصفية الخصوم، والتلاعب بالوحدة الوطنية، وتدمير اقتصاد البلاد، وتدهور الوضع الأمني وزيادة المخاطر الأمنية بسبب الحرب على ما يسمى الإرهاب”.
“إن موضوع رحيل النظام بات محسوما، وبيد منسقية المعارضة”.
“إن منسقية المعارضة مقتنعة تماما أن الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز لم يعد صالحا لحكم البلد، هذه القناعة هي التي جعلتهم يطلبون رحيله بإلحاح ويكثفون جهودهم من أجل ذلك”.
“إن ولد عبد العزيز – من سوء حظه- أنه وصل للحكم في ظرفية لا تصلح للأحكام الدكتاتورية، وسيواجه مصير الرؤساء من قبله في تونس ومصر وليبيا واليمن؛ الذين محقهم الربيع العربي… إن الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز نهب خيرات البلد، وتاجر بممتلكات الشعب، ولذلك فَقَدَ كل مؤهلات البقاء في السلطة.. إن رحيله بات أمرا لا مناص به”.
“… لا خيار أمام النظام القائم سوى التسليم بمطالب الشعب أو مواجهة اتسونامي هائج سيجرف كل ما يقف في وجه شعب مل عقود الظلم والحرمان، وأصبح يستنشق عطر الحرية من حوله”.
… وهذا غيض من فيض.
وقد عزز من طغيان هذا الوهم الولع الفطري للإنسان بالتقليد وقدرته عليه؛ ناهيك عن قوة العادة، وتعذر الخلق والإبداع، والعجز عن ملاحظة العناصر الجديدة والتكيف معها، وإدراك طبيعة واتجاه تطورها من طرف من يسعون إلى الهيجاء بغير سلاح.
وفي عالم تهدد فيه البضائع “المقلدة” التبادل التجاري الدولي، ويبلغ حجم تجارتها 780 مليار دولار، فإنه يجب على أولي الأبصار والغيورين على أهلهم ووطنهم أن يعتبروا، ويتأكدوا من صحة وأصالة وملاءمة الحلول الاجتماعية التي تقدم إليهم. وسيجدون – لامحالة- العون والإسوة الحسنة في مَعين ثقافتهم الزاخرة بالأمثلة التي تسخر من التقليد الأعمى، والاندفاع خلف الأوهام، وعدم التبين وتحكيم العقل، مثل: “شاف الأمهار لاح سروالُ”. و”شاف النو افلت گربو”َ! وبَرْدُ غداة قتل عبدا ظَمَأً. ومثل الدب الذي اصطاد ثورا – بعد لأي وسغب- فنهق حمار غير بعيد فأطلق الثور وجرى خلف الحمار فلم يجده، وضاع منه الثور! (ما رَ لحمار أمر آفوك).
ولله قيس بن الحدادية حين يقول في الحزم والتبصر:
أنّى أتيحَ لهم حرباءُ تَنضُبَةٍ… لا يطلق الساق إلا ممسكا ساقا.
انقلاب أم إرهاب أم فوضى؟
وإذا عدنا إلى رحيل “أهل أعمر” نجد أن أول ما تبادر إلى ذهن الأمير سيد أحمد ولد بكار بصفته قائدا محنكا ومدبرا حازما، هو أن الرحيل، أي رحيل، إنما يتطلب الوسائل، ولذلك بعث بفرسه “احديجه” وجماله إلى الشاعر سدوم ليرحل عليها! فما هي يا ترى إذن الوسائل المهيئة للرحيل المزمع اليوم؟
في علم الاجتماع السياسي لا يوجد غالبا إلا خمس وسائل متاحة للرحيل؛ هي: الثورة، وصناديق الاقتراع، والانقلاب، والإرهاب، والفوضى. فأي هذه الوسائل هي المرشحة إذن؟
ولنستعرضها واحدة تلو الأخرى:
الثورة:
الثورة عمل جماهيري رائع وخلاق رغم ما تزخر به من أخطار: الثورة الفرنسية، الثورة الروسية، الثورة الجزائرية، الثورة الكوبية مثلا. وقد سميت هذه الثورات ثورات، لأنها كانت كذلك؛ طوفان شعبي عارم ومدمر وخلاق. ولم تكن مجرد انتفاضة أو تمرد أو فتنة، ولا مظاهرات مرخصة أو اعتصامات. ولكن الثورة نتاج أزمة ثورية، ووضع ثوري، وتحول كمي تراكمي يفضي إلى تحول نوعي في إحدى مراحل تطوره والحمل به.
فهل توجد أزمة ثورية في موريتانيا؟
على الرغم من أن الأوضاع في موريتانيا ليست كما نريد ونحب وكما يجب، فإن البلاد ليست في أزمة سياسية كما يدعي البعض، أحرى أن تكون تعيش أزمة ثورية أو مخاضا ثوريا. فسلطة الرئيس محمد ولد عبد العزيز التي أنجزت الكثير، والتي تجادل الفساد، هي طبعا أفضل كثيرا من الفساد. ولكن الفساد أقوى منها بكثير؛ أقوى منها بآلياته، ووسائله، ومواقعه المحصنة، وخبرته، وقدرته على التكيف والصمود، واستطاعته استقطاب قوى كان من المفروض أن تكون مع الإصلاح، لولا تأثير المتضررين من الإصلاح عليها، وما يخالج بعض تلك القوى من أوهام انتقال عدوى الربيع العربي إلى موريتانيا.
بيد أن تلك السلطة ليست طليقة اليد، وهي بطيئة ومترددة في إنجاز الإصلاح، وعاجزة إلى الآن عن علاج قطاعات أساسية في الدولة كالإدارة والقضاء، وتعاني من تأثير بعض ذوي النفوذ في القبيلة والبطانة والمؤسسة، وما تزال تجربتها وخبرتها محدودة في التسيير والرجال، وتفتقر إلى مؤسسات صالحة وفريق عمل منسجم يحدوه الإخلاص للوطن وتغليب المصلحة العامة.
إن سلطة بهذه المواصفات يمكن ويجوز تجاوزها في حالة وجود وضع ثوري، وعند ما لا يوجد وضع ثوري فمن الواجب التعامل معها والتعاون؛ بغية تحقيق المزيد من الإنجازات وإصلاح وتوسيع وتوطيد الحريات والمؤسسات، وترك تحديد مصيرها لصناديق الاقتراع.
ولمن يريد معرفة أشراط الأزمة الثورية ليتأكد من وجودها أو عدمه فهي ذلك الغليان الاجتماعي الشامل الذي يعجز فيه الحاكمون عن ممارسة الحكم، ويرفض فيه المحكومون أن يحكموا من طرف الحاكمين. وهذا هو الوضع الذي رأيناه بأعيننا وعشناه لحظة بعد لحظة في تونس ومصر واليمن!
صناديق الاقتراع
من الصعب جدا أن تتيح صناديق الاقتراع رحيل حكم أو نظام. ومع ذلك فقد أصبح ذلك ممكنا شريطة أن تتوفر شروط في مقدمتها أولا، وجود أحزاب سياسية عريقة تؤمن بالديمقراطية وبالمواطنة وتستثمر في الشعب بصفته صاحب المشروعية والإرادة التي لا تقهر. وثانيا، انتشار الوعي والتنظيم والثقافة بين الناس حتى يصبحوا قادرين على تذليل العقبات وترجيح كفة الرحيل. تماما مثلما جرى في الشقيقة المجاورة: سنغال. وهذه الشروط مفقودة حتى الآن في بلادنا لأسباب نعرفها جميعا ونخفيها عن أنفسنا ونتجاهلها ونحاول القفز عليها من أجل بلوغ السلطة في أقرب وقت ممكن!
وفي غياب شرعية الثورة، وتجاوز شرعية صناديق الاقتراع ـ وكلاهما عمل جماهيري بامتياز ـ لا يبقى في جعبة المنادين بالرحيل غير ثلاثة احتمالات تعتمد كلها على البطولة الفردية وتلغي دور الجماهير، وهي: الانقلاب، والإرهاب (تدبير اغتيالات وعمليات انتحارية والتنسيق مع القاعدة) والفوضى (إثارة الفتن). وبما أن الإرهاب والفوضى مدانان أصلا وفرعا ومن غير المرجح أن يلجأ إليهما أولو الألباب، فسنتوقف قليلا عند “وصفة الانقلاب”.
ذلك أنه لا يكاد خطاب من خطابات دعاة الرحيل يخلو من دعوة صريحة أو خفية وحث للجيش على القيام بانقلاب، لحد أن كاتبا عنون مقالا بـ”انقلاب لوجه الله يا محسنين” وكتب أحدهم عن “انقلاب في الأفق”. وفي نشاط مواز تم تجميع مختلف العناصر الانقلابية ذات الصلة بالجيش وتجنيدها، عل وعسى!
ولكن، أليس من المعلوم أن “صناعة الانقلابات” في موريتانيا قد قدمت دروسا وعبرا ثمينة نبتسر من بينها ما يلي:
1. أن الجيش الموريتاني الذي كان مستباحا أصبح الآن يملك زمام أمره، وصار مؤسسة وطنية لديها الإرادة والقوة والوسائل الكفيلة بتمكينها من القيام بمهمتها الأساسية التي هي حماية الوطن. ولم يعد – كما كان بالأمس- ضعيفا أعزل خائرا مهزوما معمولا به ومستخدما كواجهة في تصفية الحسابات وتحقيق المآرب والامتيازات الضيقة. ولعل تجربة حربه ضد الإرهاب والتهريب أبرز دليل على ذلك.
2. أن الانقلابات إضافة إلى تجريمها بنص الدستور، وتناقضها الجلي مع الديمقراطية التي يتغنى الجميع بتبنيها والانتماء إليها، هي التي كانت أصل جميع مآسي موريتانيا خلال العقود الماضية؛ فانفراط عقد الدولة، وانهيار مؤسساتها، وتدهور الاقتصاد الوطني.. إلخ، إنما كانت بسبب انقلاب العاشر من يوليو 1978 وما تلاه من انقلابات علنية وخفية تصارعت فيها الجماعات والقبائل والجهات والأعراق على السلطة والغنائم. ومن المستبعد أن يرى فيها الموريتانيون الذين اكتووا بنارها زهاء أربعين سنة حلا لخلافاتهم الثانوية البسيطة.
3. أن كل الانقلابات و”الأحكام العسكرية” التي عرفتها البلاد لم يملك الجيش منها سوى الإضافة التي تقع بأدنى سبب. وإنما كانت كلها بتدبير وتوجيه من جماعات الضغط المدنية الفاسدة التي كانت تتخذ الجيش مجنا تمارس من ورائه امتصاص دماء الناس وترسيخ وتوطيد مؤسسة الفساد التي أهلكت الحرث والنسل. بينما كان نصيب الجيش (تلك المؤسسة العظيمة التي هي درع الوطن) التجويع والإهمال والتصفية (إفراغه من خيرة أبنائه) وتركه خاويا على عروشه بلا سلاح وبلا تدريب وبلا روح عسكرية.
4. أن الضباط والجنود الذين حصدتهم الانقلابات والصراعات العسكرية كانوا أكثر بكثير من الذين حصدتهم حرب الصحراء المفجعة. ومن المؤكد أن قادة جيشنا ورجاله لن يقبلوا اليوم أن يغامروا ويقدموا أرواحهم قربانا لمؤامرات ومغامرات جماعات الضغط المدنية المتصارعة على السلطة والغنيمة.
5. أنه إذا كانت الثورة تأكل خيرة أبنائها فإن الانقلاب يأكل جميع أبنائه دون استثناء (ماه رافدها عن مادغه) وعلى الذين يروجون لـ”وصفة” الانقلاب أن يدركوا ذلك جيدا. فالمدنيون الذين دبروا انقلاب العاشر من يوليو جرفتهم هم وجنودهم موجة 6 إبريل، التي جرفتها موجة أخرى، جرفتها موجة أخرى.. وهكذا دواليك. ومن الخطأ والخطل الظن أن العسكريين سيغامرون بحياتهم ليسلموا السلطة على طبق من ذهب لمدنيين أو عسكريين آخرين (خاصة إذا كان من ورائهم مدنيون وعسكريون لا يجمعهم إلا هدف واحد هو الوصول للسلطة) فذلك لا يقع إلا نادرا. والأندر منه أن يظل المنقلبون منسجمين في سبيل تحقيق الهدف الذي انقلبوا من أجله؛ إذا كان لهم هدف أصلا. بل إنهم سيتفرقون أيدي سبأ ويتصارعون ما شاء لهم الله ويدخلون البلاد نفقا أكثر ظلاما وآلاما. وهنا يجب التنبيه إلى أن أعظم منة منها الله على الموريتانيين كانت فشل انقلاب 8 يونيو 2003. ذلك أنه لو نجح لهلكت البلاد بأسرها.
(نشرت الحلقة الأولى من هذا المقال تحت عنوان: “الرحيــل”: لماذا، وكيف، وإلى أين؟)
Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا
No comments:
Post a Comment