Monday, 25 June 2012

فى رثاء العلامة اشبيه ولد ابوه





لم يكن أمام الموريتانيين مساء الخامس من حزيران سنة 2012 إلا الرضى بقضاء الله حين تأكدوا أن أصمعي اللغة العربية، وفارس الفتوة وأمير الخطابة، وزين المجالس العلمية والمحافل الأدبية والاجتماعية، الشيخ محمد عبد الله ولد محمد الامين (أشبيه) ولد محمد سالم ولد أبوه غادر دار الفناء إلى دار البقاء. فإنا لله وإنا إليه راجعون.


خيمة أهل اشبيه ولد ابوه المضروبة امام فناء منزل الفقيد على طريق انواكشوط اكجوجت والتي طالما كانت مقصد طلاب العلم وذوي الحاجات جمعت شمل الموريتانيين.


علماء ومشايخ ومثقفوا جهات موريتانيا الأربع، كل رؤساء موريتانيا السابقين ووفد عالي المستوى يمثل الرئيس محمد ولد عبد العزيز، رؤساء الأحزاب السياسية وقادة المجتمع المدني وشيوخ القبائل، الكل أنسته التعزية في الفقيد حالة التخندق والاحتقان السياسي فتصافحوا وتعانقوا تحت خيمة أهل أشبيه.


الحديث عن فقيد القطر الموريتاني حديث متشعب، تمتزج فيه مشاعر الإعجاب وآصرة الرحم بعبق الأدب، وأيام العرب، وحكايات المغازي والسير، وكنوز الفقه وصدف النحو والصرف …. كنوز علمية لا تقدر بثمنن، وفوائد ومعارف تجنى وتقطف يانعة من بستان رجل يصدق فيه قول الشاعر:


مَضَى ابنُ سَعِيدٍ حينَ لَمْ يَبْقَ مَشْـرِقٌ * * * ولا مُـغْـرِبٌ إلاَّ لـه فِـيهِ مـادِح


وما كُنْتُ أَدْرِي ما فواضِـلُ كَـفِّـهِ * * * على النّاسِ حتى غَيَّبَتْه الـصَّـفـائِحُ


فأَصْبَحَ في لَحْدٍ مِـن الأَرْضِ مَـيِّتـاً * * * وكانَتْ به حَيًّا تَضِيقُ الصَّحـاصِـحُ


سأَبْكِيكَ ما فاضَتْ دُمُوعِي، فإنْ تَغِضْ * * * فَحَسْبُكَ مِنِّي ما تُجِـنُّ الـجَـوانِـحُ


فما أنا، مِن زُرْءٍ وإنْ جَـلَّ، جـازِعٌ * * * ولا بسُرورٍ بَعْـدَ مَـوْتِـكَ فـارِحُ


كَأَنْ لَمْ يَمُتْ حَيٌّ سِواكَ، ولَـمْ تَـقُـمْ * * * على أحَـدٍ إلاَّ عـلـيكَ الـنَّـوائِحُ


لَئِنْ حَسُنَتْ فَيكَ المَراثِي وذِكْـرُهـا * * * لقَدْ حَسُنَتْ مِن قَبْلُ فِـيكَ الـمَـدائِحُ


جلسات علمية عديدة جمعتني بالفقيد أتذكر أنني سألته في إحداها عن معنى كلمة “أيضا” وبعد أن شرح وبين معنى ودلالات الكلمة أمرني أن أكتب الأبيات التالية وأن أعيدها عليه من ذاكرتي بعد دقيقتين والأبيات هي:


رب حوراء هتوف في الضحى ذات شجو صدحت في فنن


ذكرت إلفا وعيشا سالفـــا فبكت حزنا فهاجت حزني


فبكائي ربما أرقهــــــا وبكاها ربما ارقنــــي


ولقد تبكي فما أفهمهــــا ولقد أبكي فما تفهمنـــي


غير أني بالجوى أعرفهــا وهي أيضا بالجوى تعرفني


وأتذكر أيضا يوم قال لي هل تعرف أن طول نفس الشاعر مع ركاكة المعاني التي يقصد مخل بسمو الشعر وشرفه، ثم استشهد بنموذج شعري شريف المعنى قصير النفس هو :


إن امرءا مدح أمرءا لنواله وأطال فيه فقد أطال هجاءه


لو لم يقدر فيه بعد المستقى عند الورد لما أطال رشاءه


ولو بسطت القول فيما سمعت من المرحوم محمد عبد الله ولد أشبيه من فوائد وشوارد أدبية وفقهية وتراثية لما كبحت جماح قلمي لقوة الداعي وسمو المقام وتأثيره في النفس.


صفحة مشرقة من صفحات لغة الضاد طويت برحيل محمد عبد الله ولد أشبيه رحمه الله.


نتذكر بعض ومضاتها من خلال أبيات عبر بها مفخرة موريتانيا محمد سالم ولد عدود رحمه الله عن إعجابه بالشرح الذي وضع الفقيد على نظم الحروف للشيخ محمد المامي:


شرح نظم الحروف لابن الشبيه كل لون من الفوائد فيــــه


فيه نحو الخليل باد وفيـــه من لغى الأصمعي حسب النبيه


ومعان كأنهن جمـــــان كل معنى ينسيك ما تقتفيـــه


وبيان فيه مجاز كنايــــا ت وفيه استعارة التشبيــــه


وبديع فيه طباق وتجنيـــ س وفيه الابهام بالتوجيــــه


فليطالعه من يريد اتساعــا في اطلاع ففيه ما يكفيــــه


فقدت موريتانيا برحيل الرجل مكتبة وذاكرة وطنية فريدة، تميزت بالحفظ الموسوعي لمتون الفقه، وكتب المغازي والتاريخ، والأخبار وأيام العرب وعيون الشعر وغرائب الحكايات العلمية والأدبية ذات الدلالات والمقاصد السامية…….


برحيل الرجل طويت صفحة من صفحات الخبرة بالموروث الشعبي في شعره الحساني وحكاياته، ونكاته الأدبية، وقصصه الاجتماعية، وأخبار إعلامه البشرية والمكانية، وأحداثه التاريخية، كما طويت صفحة من صفحات النبل والكرم، والسمو الأخلاقي والابتعاد عن كل مظان المهانة والضعف…


كان رحمه الله مؤمنا قويا:


غير مفراح لخير نالـــــــه لا ولا يكبو لضر إن نـزل


يصدق فيه قول الشاعر:


كان في نفسه العظيمة في جيــ ـش ومن كبرياه في سلطان


فهو في نفسه نبي ولكـــــن ظهرت معجزاته بالبيــان


برحيل الفقيد محمد عبد الله ولد أشبيه تفقد موريتانيا مرجعية يفزع لها في النوازل الاجتماعية، والتجاذبات القبلية التي تحتاج إلى الحكمة والمرونة والخبرة الواسعة بالمجتمع


ولقد كان مع ما حباه الله به من علم موسوعي، وسمو ونبل نفس أنيقا أيضا بهندامه وبطلعته البهية، وقد وهبه الله القبول والعظمة في قلوب الناس، كما كان يعطي بسمته الجميل الصورة المشرقة الناصعة التي تناسب العالم والأديب الذي يمثل علية القوم وأهل الفضل أحسن تمثيل.


تداعيات الحدث: وما يرتبط بالفقيد من ثقافة وأدب ونبل وسمو أخلاق، لا تكاد تنتهي فلنعرج قليلا كي نذكر ببعض المحطات المتعلقة بحياة المرحوم.


فقيد القطر والأمة هو محمد عبد الله ابن محمد الامين (أشبيه) ابن محمد سالم ابن ابوه وأمه هي أبيه بنت أبو يزيد ابن محمد البخاري بن المحمود ولد في شتاء 1930 عند بئر بحجره شمال منطقة انواكشوط، أما مساره الثقافي فيمكن أن نقول عنه.


محمد عبد الله ولد أشبيه هو خلاصة المدرسة الموسوية اليعقوبية التي يفزع إليها في الفتيا والقضاء والتدريس في الحيز الجغرافي الممتد ما بين أعماق تيرس شمالا إلى أقصى إيكيدي جنوبا وقد عبر محمد ابن الطلبه عن هذا الحيز المكاني بقوله:

سرى يخبط الظلماء من بطن تيرس إلي لدى ابريبره لم يتعرج

وقد تولى جده القاضي المختار بن الفقيه موسى القضاء للأمير اعل شنظوره فظل القضاء والعلم متواصلا في أبنائه، أما والده اشبيه ابن محمد سالم ولد ابوه المتوفى سنة 1939 فقد كان عالما ربانيا، وأديبا وشاعرا مفوها وشيخ محظرة شاع صيتها وعلا ذكرها وتخرج منها مئات العلماء والأدباء والقضاة.

هذه البيئة الثقافية وهذا الفضاء العلمي المتميز هو الذي حدد المسار الثقافي والأخلاقي للفقيد.

ولأنه فقد والده اشبيه رحمه الله وهو ابن تسع سنين فقد عاش ملازما لجده أبو يزيد بن محمد البخاري وظل يرافقه في حله وترحاله.

لازم العالم والمرجعية الوطنية الكبيرة الشيخ المختار بن محمد موسى رحمه الله فكانت جل دراسته عليه، كما استفاد في مجالي الفقه والنحو من كل من العالمين الجليلين محمد فاضل بن محمدن آب ومحمد سالم بن أبي المعالي ابن أمينه كما التقى عدة اعلام من أشهرهم المختار ولد حامدن، والامام بداه بن البصيري، والامام ولد اشريف والمختار ولد ابلول، وكانت له مع كل منهم جلسات علمية، ومما أعجب بهم من علماء وأدباء موريتانيا أمحمد بن الطلبه، ومولود بن احمد الجواد، وصالح ولد عبد الوهاب والشيخ سيدي مولود فال، وسيد محمد بن الشيخ سيديا.والشيخ كلاه.

بدأ محمد عبد الله ولد شبيه مساره الوظيفي بالقضاء سنة 1952 حيث عمل مساعدا لإبن عمه وشيخه ( القاضي المختار ولد محمد موسى رحمه الله ) الذي كان حينها قاضيا لداخلة انواذيبوا، ودخل سلك التعليم سنة 1957 فكان المدرس والمرشد والموجه للكثير من أبناء منطقة الساحل عموما، وداخلت انواذيبوا خصوصا، ونذكر هنا بأن مدرسة كانصادوا التي درس بها وتولى إدارتها على مدى ثلاثة عقود تعرف اليوم بمدرسة ولد اشبيه، وقد اختير ضمن ممثلي داخلة نواذيبو في عضوية المجلس التأسيسي الذي أقرته اللجنة الوطنية للخلاص الوطني، وقد استفاد الفقيد من حق التقاعد سنة 1987.

ارتبط محمد عبد الله ولد أشبيه رحمه الله بالمدينة في وقت مبكر من حياته، وباعتبار تفتحه على كل صنوف الثقافة الإيجابية ولاهتمامه بالمطالعة وبمذاكرة العلماء والأدباء والمثقفين، فقد زاد رصيده المعرفي وعمق ثقافته المحظرية وهذبها، فمثلا تميز عن جل معاصريه من خريجي المحظرة الموريتانية بحرصه الشديد على متابعة الاحداث العربية والدولية من خلال اشتراكه الدائم في صحيفتي المستقبل والوطن العربي منذ بداية سبعينيات القرن الماضي .

دخل معركة الدفاع عن اللغة العربية والهوية الإسلامية في لحظة حرجة من تاريخ موريتانيا المعاصر فكان مبدئيا وشجاعا وملتزما كما كان أيضا مؤثرا…

مؤلفاته:

خلف محمد عبد الله ولد اشبيه العديد من المؤلفات اللغوية والفقهية التي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :

ـ تحقيق وشرح ديوان امحمد بن الطلبه اليعقوبي وهو عمل لغوي وأدبي ضخم، وقد كلفه هذا العمل ثمانية عشر سنة من البحث والتدقيق قابل خلالها عشرات الباحثين والرواة واستنطق الكثير من المخطوطات، فجاء البحث على مقدار الجهد وأهمية الموضوع.

ـ شرح نظم الحروف للشيخ محمد المامي وموضوع النظم المذكور “معاني ودلالات الحروف” ومن هذا النظم:

استفتحن بألا يا صاح وأختها أمال للاستفتاح

وأحرف العطف وهي إن تسل واو وفاء ثم أو وما وبل

وهذا المؤلف هو الذي ثمنه وقرظه الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله بقوله:

شرح نظم الحروف لابن الشبيه كل لون من الفوائد فيه

إلى آخر الأبيات.

ـ عمل لم يكتمل بعد عن العالم الجليل أحمد كما الدين المعروف بلمجيدري ولد حبيب الله ( ت1204) يشمل ديوانه الشعري وآراءه العلمية، وما يتعلق برحلته إلى الحج.

ـ ديوان شعر لم ينشر بعد يتناول مختلف الأغراض عرف الفقيد رحمه الله بأنه كان مدرسة متنقلة يعلم الطلاب والباحثين أينما ظفروا به. في مجلسه العامر بالعلم والأدب ببيته، أو في المدرسة، أو في إحدى المناسبات الثقافية التي كان يحضرها.

ولأن المقام لا يتسع للحديث عن شعر الفقيد وما تميز به من تجانس وانسجام ما بين مناسبة الالفاظ لمقتضيات الأحوال والمقامات، والالتزام بقضايا الأمة فسأقتصر على أمثلة من شعره تتسم بالايجاز والبلاغة ومناسبة مقتضى الحال يقول الفقيد في الرحمة المهداة صلى الله عليه وعلى آله وسلم:

إلى الرسول الكريم الهاشمي الهادي

أسنى السلام إلى حب الإله ومن

إلى أن يقول:

إني محبكم إني مبايعكم

كان الصحابة آبائي وكنت على

فدى لك النفس والأهلون أجمعهم أسنى السلام بتطريب وإنشاد

أثنى عليه ثناء ليس بالعاد

على القرآن وهدي المصطفى الهاد

ماقد عرفت من آبائي وأجدادي

أبي وأمي وأموالي وأولادي


ويقول في رثاء يوسف ولد الشيخ سيديا وا أسفا قيلت على يوسف

فحزن يعقوب على يوسف ونحن قلناها على يوسف

كحزن يعقوب على يوسف


ويقول جوابا على سؤال طرحه عليه البعص : اومن بالله وآياته

اومن بالعرب وأني منهم وبمصير الناس لا أعبث

اومن بالبعث وأني ابعث


الدفاع عن القيم النبيلة

نذر محمد عبد الله ولد أشبيه رحمه الله نفسه للإرشاد والدفاع عن القيم الإسلامية والأخلاق العربية النبيلة، فسخر شعره السلس، وكل أدواته المعرفية المؤثرة للدفاع عن شرف الأمة وقيمها النبيلة، وقاوم المسخ الحضاري وما يرتبط به من ممارسات سوقية ومن ذلك نظمه السلس الذي دخل كل البيوت الموريتانية منذ نهاية الستينات ولغاية نهاية السبعينات، لكثرة ما رددته الإذاعة الوطنية حين ذاك يقول الفقيد رحمه الله واصفا بعض ما لا يرضى للمرأة الموريتانية:

ياليتني لم أرها في التكصي تحمل صكا واللباس مكصي

قد رققته بغية التقصــي وحددت اعضاءها بالوص

إلى أن يقول:

وتفحص الرجال أي فحص جالسة بينهم تدانــــص

قد خرقت برجلها للشص قلت لها سيدتي لا تعـصي

وابتعدي عن شبه ونقص وامتثلي لكل ما في النـص

فنظرتني بعين لـــص قائلة بفحشها المستعــص

لا تنصحني ولا تـوص فقد بذلت شرفي وشخصي

وفي انحلال خلقي شنصي تبا لمن ليس يريد قنصـي

فراعني كلامها الفرنسي ثم سكت خيفة من بكص


والقطعة الشعرية كما هو واضح تنتقد اللبسة النسائية الشائعة التي كانت موضة في تلك الفترة، والتي عرفت بـ(MAXI) وهي نوع من الملابس النسائية المحددة، وفي نفس السياق تدخل قطعته الشعرية التي يقول فيها:

وبنت شعبك التي حلاها أدبها وعلمها حلاها

مافتئت تسلك دين طه وافتخر الدهر بها وتاها

إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها



أقــــلام حرة




Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا

No comments:

Post a Comment