Sunday 18 November 2012

نعيب | ‫#موريتانيا أخبار


الأحد 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012









أبو العباس ابرهام

حدث الغراب، وكان غرابا نبيلا ولكن الدهر أزرى به، قال:


لما ملك الإكسير بن خمشون أجدبت الأرض فعشنا عام خير. ومصائب الناس للغربان فوائد. فرقصنا ونعبنا وصلنا وجلنا. وكان الأديم أرقط من أشلاء الآدميين. وكان الغراب منا يومها لا يُولم على أقل من عشر جثث كل يوم. فلكم غطسنا ورتعنا في أمعائهم. وكُنت أتعفف عن ما دون الأكباد. وكنتُ آخذ قطعة الكبد بمخلبي وأهوي بها إلى منقاري وأُتبعها الشحمة الآدمية التي ترفل في الدم والصديد. ثم عم الموات وحال الحول فلم يبق الناس إلا جلدا على عظم. فعدنا لأيام الرمادة وعدنا للوأد. وضاقت الأرض بنا أيما مضيقة. وأصبحنا لا نجد من طُعم إلا ما بقي من جثامين السجناء بدار أبي نعيم الحوثي. وكنا لا نصدق أن قائمة قد قامت أبدا لليخضور في الأرض وصدقنا ما قاله لنا الأولون عن ملك حيد الله، الذي دهى الجزيرة فأشقاها.


ترهل لحمي وأنكرتني العوالي وأهلكتي الأيام التي كانت بطول السنين فنعب لي أبي وقد عزم على رمي نفسه على منقاره كما تفعل النسور. وكان ذاك منكر فينا معشر الناعبين. فقال لي لما رأى الدرب دونه: “إني راحل. أما أنت فلو زرت السلطان فإني سمعت أنه أنيس بالغربان رحيم”.


فدخلت نواق شطئانه وكانت قد تسمت يومها بـ”ساء من رأى” فأقمت بها أياما. فكنت أَطْعَمُ من جثث الكلاب والفقراء في الشوارع وأحرص على تجنب حصب الصغار فما وجدت مسكنا أهنأ لي من الوقوف على رؤوس الوزراء. فبينما أنا في تلك الحال إذ هبت ريح شديدة وامتلأ ما بين السماء والأرض واسودت الآفاق وأقبل علي رجل غزوان أسفا: فقال لي: يا أبا حاتم. إن الأمر ما ترى. وإني لا أرى الإكسير إلا وهو ماض لما علمته من شؤون الجند وتأخر الخراج وضجة الناس فهل لك في نعيب تفوز منه بالذكر والمدد؟


فقلتُ له: إني لا أستنكف عن شر فما بالك بخير.


فقال لي: إن الملأ كما ترى. لا يميزون فيلا من نملة، ولا أسدا من قملة فانعب لهم نعيبا يعرفون به أسفلهم من أعلاهم. ولك ما تريد.


فطرت بما في من رمق وأفردت جناحي وأعطيت نفسي للريح حتى أطليتُ على غرابيب الناس وهم متفرقون عند أطم رمادي بوسط القرية فتهاديت على غصن أيكة. فكأن القوم انتبهو لي فأنشدتهم قول الأخطل الصغير:


يمشي بعلته على مهل


فكأنه يمشي على قصد


ويمج أحياناً دماً . فعلى


منديله قطع من الكبد


قطع تآبين مفجعة


مكتوبة بدم بغير يد


قطع تقول له : تموت غداً


وإذا ترق ، تقول : بعد غد


والموت أرحم زائر لفتى


متزمل بالداء مغتمد


قد كان منتحراً ، لو أن له


شبه القوى في جسمه الخصد


لكنه ، والداء ينهشه ،


كالشلو بين مخالب الأسد


جلد على الآلام ، ينجده


طلل الشباب ودارس الصيد


أين التي علقت به غصناً


حلو المجاني ناضر الملد


أين التي كانت تقول له :


ضع رأسك الواهي على كبدي ؟..


مات الفتى ، فأقيم في جدث


مستوحش الأرجاء منفرد


متجلل بالفقر ، مؤتزر


بالنبت من متيبس وندي


وتزوره حيناً ، فتؤنسه


بعض الطيور بصوتها الغرد


فنظرت في الوجوه فإذا كلهم يفحص الأرض بحثا عن صلد يقصفني به. فعرفت أنهم ما استحسنوا ما قلت. فقلت في نفس “لعلهم ممن يكره مقالات المحدثين” فسبقتهم إلى إنشاد ابن عبدون:


سلني عن الدهر تسأل غير


إمعة فالق سمعك واستمع لإيراد


نعم هو الدهر ما أبقت غوائله


على جديس ولا طسم ولا عاد


ألقت عصاها بنادي مأرب


ورمت بآل مامة من بيضاء سنداد


وأسلمت للمنايا آل مسلمة


وعبدت للرزايا آل عباد


فلما آنست منهم إنصاتا عطفت بقول ابن شبث:


يا خليلي إن العدو كثير


فاحذرنه وأين أين الصديق والرفيق الذي يؤمل منه الـ


ـرفق قاس فما رفيق رفيق


وبسوق الهوان يبتذل الفضـ


ـل فما للفروع فيه بسوق


فسد الناس والزمان ولا بـ


ـد بحق أن يخلق المخلوق


فالكريم الذي يغيث يغوث


واللئيم الذي يعق يعوق


فوالله ما فرغتُ من البيت حتى سر القوم أيما سرور وأومض البرق وأمطرت الأرض واجتمع القوم إلى السقيفة. فعرفتُ أنهم لا يريدون بالإكسير شرا. وإنما أغضبتهم دولته وأمره. وهمهم أمرهم وأمر دنياهم ودولتهم دونه. فأرادوا رحيله دون تلفه. فتعجبت من أمرهم. وعدت إلى صاحبي فأخذتُ منه أعطيتي وعدت إلى أرضي فأقمت بها.


مدونات تقدمي


عودة للصفحة الرئيسية




المصدر




Filed under: موريتانيا Tagged: موريتانيا

No comments:

Post a Comment