Monday 28 January 2013

المجلس الأعلى للفتوى و المظالم و أثره على الإفتاء

altالحمد لله و كفى و الصلاة و السلام على النبي المصطفى و آله الشرفاء و صحبه الخلفاء و من اتبعهم من الأوفياء إلى أن يطوي الله السماء و يحشر الخلائق للقضاء ،


فيلجم العرق الأشقياء و يظل الله في ظله السبعة السعداء و يجعل عند يمينه المقسطون الأصفياء و كلتا يدي الرحمن يمين وفاء ، و صلى الله على النبي الأمي الأمين ، شفيع المذنبين و قائد الغر المحجلين ، و بعد ،


رب اشرح لي صدري * و يسر لي أمري * و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي


إن الكلام عن المجلس الأعلى للفتوى و المظالم و هو في طوره التأسيسي تبرره قاعدة ” لا ينسب لساكت قول ” المخصصة بالقاعدة الفرعية ” و لكن السكوت في محل الجواب جواب ” . فلقد تابعت حلقة من حلقات أثير إذاعة موريتانيا استضافت عناصر صرحوا بأنهم في منزلة من يطلق عليه ” العدل الجاهل ” و في وصفهم بذلك نظر إذا عرفنا دلالة هذا المصطلح عند حذاق أهل الصنعة ، و قد شحذوا عبرهذه الحلقة همم المستمعين بالتأليب ضد كل فتوى لا تصدر من المجلس الأعلى للفتوى مع أنهم أخطؤوا حتى في تسمية هذا المجلس ـ و إن كنت داعية مستقلا ، لست من المعارضة و لا من الموالاة ـ و لكن ما سمعته يستحق الرد لإخماد الفتن بسبب التقليد و التعصب البليد في السطور التالية :


1 / لماذا أنشئ المجلس الأعلى للفتوى و المظالم ؟


الكل يعرف أن المجلس الأعلى للفتوى تأسس بقرار رسمي من الحكومة برئاسة رئيس الجمهورية إثر طلب من بعض الفقهاء المقربين من النظام لضبط لفتوى الشرعية في بلادنا بزعمهم أنها تعرف فوضى عارمة حيث أصبح يقوم بها ـ في نظرهم ـ كل من هب و دب .


و هذا ما يجعلنا نبين في عجالة أن هذه الفوضى التي نعيش فيما يتعلق بالفتوى شاملة للأغلبية و للمعارضة على حد السواء و ذلك لأن الفتوى الشرعية في بلادنا أصبحت كالأقوال السياسية . و كان التعامل معها سياسيا و انتقائيا بحيث يبث على الأثير ما يوافق النظام السائد أو كل ما كان فيه تحيز و تعصب لآراء فرعية في المذهب المالكي بينما يقع الانزعاج من هؤلاء إذا كانت آيات أو أحاديث في الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو كانت آيات أو أحاديث تخالف ما سطره بعض المقلدة في بعض الكتب الفقهية المالكية . إلا أننا نجد في الموالاة و كذلك في المعارضة من يتجاوز الأقوال و الأقاويل ليصدر فتاوى تتوفر فيها شروط الفتوى و ضوابطها . فعلى سبيل المثال لا الحصر : نستمع كل يوم إلى برامج في الإذاعة تبث على الأثير مباشرة و تستضيف طلاب فقه يقومون بتقديم درس حول باب من أبواب الفقه في العبادات أو المعاملات أو غيرها ثم يفتح الباب للأسئلة على الأثير غير مقيدة بباب و لا فصل من فصول الفقه علما بأن ما كان يقدمه الطالب لا تجوز الفتيا به فكيف بما يستحضره هذا الطالب ارتجاليا من هذا الكتاب الذي يقدمه نثرا كان أو نظما ، فهل هذه الأقوال الصادرة من هذا الطالب تعتبر فتاوى شرعية أم فوضى الفتوى ؟ و لماذا لم تتوقف هذه المهزلة التي تجعل هذه الشريعة الغراء كالمعارف العلمانية التي تكون الأجوبة الخاطئة فيها كالأجوبة الصحيحة لأن في الأمر بالنسبة للمعارف العلمانية سعة ، بينما الفتوى الشرعية لها قداستها لأن صاحبها موقع عن الله و هو خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم المبلغ عن الله .


فإذا كان أثير الإذاعة يبحث عن الأصالة فليتقيد طالب العلم الذي يقدم النص الفرعي من نظم أو نثر في محظرة الإذاعة على الهوى بنصه و ليمتنع المقدم عن الأسئلة على الأثير لأنها تفتح باب الخطإ في الفتوى إن كان مؤهلا أصلا لها ، و لكي تبقى الفتوى لها قداستها علما بأنها لن تكون كذلك إلا إذا توفرت فيها شروط الفتوى و أقسامها ، و هذا ما تنبه له حذاق الفقه و الحديث قبلنا . قال ابن الصلاح في مقدمة كتابه ” أدب المفتي و المستفتي ” : ” فنعق بهم في أعصارنا ناعق الفناء ، و تفانت بتفانيهم أندية ذلك العلاء ، على أن الأرض لا تخلو من قائم بالحجة إلى أوان الانتهاء ، رأيت أن أستخير الله تبارك و تعالى و أستعينه و أستهديه ، و أستوفقه ، و أتبرأ من الحول و القوة إلا به لتأليف كتاب في الفتوى لائق بالوقت ، أفصح فيه إن شاء الله العظيم عن شروط المفتي و أوصافه ، و أحكامه ، و عن صفة المستفتي و أحكامه ، و عن كيفية الاستفتاء و آدابها ، جامع فيه شمل نفائس التقطتها من خبايا الروايا ، و خفايا الزوايا ، و مهمات تقربها أعين الفقهاء ، و يرفع من قدرها من كثرت مطالعته من الفهماء ، و يبادر إلى تحصيلها كل من ارتفع عن حضيض الضعفاء ، مقدما في أوله شرف مرتبة الفتوى و خطرها ، و التنبيه على آفاتها و عظيم غررها ، ليعلم المقصر عن شأوها ، المتجاسر عليها أنه على النار يجرأ و يجسر ، و ليعرف متعاطيها المضيع شروطها أنه لنفسه يضيع و يخسر ، و ليتقاصر عنها القاصرون الذين إذا انتزوا على منصب تدرس ، أو اختلسوا ذروا من تقديم و ترئيس ، و جانبوا جانب المحترس ، و وثبوا على الفتيا وثبة المفترس ” رحمه الله و إيانا .


2 / ما هي الفتوى المعتبرة شرعا ، و ما هي الفتوى المردودة شرعا ؟


إن هذه النقطة هي لب الاستفتاء و الإفتاء ، لأن الفتوى الشرعية لا بد لها من شروط و قواعد ، فإذا لم تتوفر فيها تركت و خولفت و إن صدرت من مجتهد معروف أو من مجلس من المجتهدين ، و هذا ما يدفعنا إلى القيام بتعريف الفتوى لغة و شرعا و أطرافها


الفتوى لغة : قال ابن منظور في لسان العرب : ” أفتاه في الأمر : أبانه له ، و أفتى الرجل في المسألة و استفتيته فيها فأفتاني إفتاء [ ...] يقال : أفتيت فلانا رؤيا رآها إذا عبرتها له ، و أفتيته في مسألة إذا أجبته عنها ، يقال أفتاه في المسألة : إذا أجابه …. و الفتيا و الفتوى و الفتوى : ما أفتى به الفقيه ، الفتح في الفتوى لأهل المدينة ” ، و الاستفتاء في اللغة يعني السؤال عن أمر و عن حكم مسألة ، و هذا السائل يسمى المستفتي ، و المسؤول الذي يجيب هو المفتي ، و قيامه بالجواب هو الإفتاء، و ما يجيب بههو الفتوى ، و لا فرق بين المعنى اللغوي و الاصطلاحي سوى أن الفتوى الشرعية تكون في أمور الدين و لا بد لها من توفر الشروط التالية : 1/ دليل الفتوى هل هو قطعي من القرآن أم ظني ، و هل هو قطعي الثبوت و الدلالة إن كان الدليل من السنة ، و درجة صحته ، 2 / إن لم يكن القول راجحا فهل هو مشهور مذهبه أم شاذ علما بأنهم اختلفوا في المشهور هل هو ما نقله ابن القاسم عن مالك في المدونة أم ما كثر قائله من فقهاء المذهب أم ما رجح دليله من كتاب و سنة ، 3 / إن كان الدليل قياسا ، فهل المفتي قام بتخريج المناط و تنقيحه و تحقيقه حتى نعرف هل المسألة التي تم الفتوى فيها تم إلحاقها بمسألة فيها حكم شرعي لنفي فارق بينهما أو لوجود جامع علة بينهما ، 4/ و من أهم جدوى الفتوى و جدارتها ما تؤول إليه هذه الفتوى ، قال في التنقيح : ” و اعلم أن الذريعة كما يجب سدها ، يجب فتحها و يندب و يكره و يباح ، فإن الذريعة هي الوسيلة ، و كما أن وسيلة المحرم محرمة ، فكذلك وسيلة الواجب واجبة كالسعي إلى الجمعة و الحج ، و موارد الأحكام على قسمين : مقاصدو هي المتضمنة للمصالح و للمفاسد في نفسها ، و وسائل و هي المفضية إليها و حكمها حكم ما أفضت إليه من تحليل و تحريم غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها ، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل ، و إلى أقبح المقاصد هي أقبح الوسائل ، الخ … ” و قد بينا في رسالتنا إلى رئيس المجلس الأعلى للفتوى أن القضاء على العبودية بالطريق العلمانية من أقبح الوسائل ، و قد تبين ذلك إثر إقدام البعض على إحراق الكتب المالكية التي تناولت أحكام العبيد ، في حين بينا من خلال مقالنا الذي أرفقنا بهذه الرسالة ـ و قد كتبناه في أوج الحملة ضد هؤلاء تحت عنوان : ” بيرام ولد عبيد ليس مرتدا و لا زنديقا و العبودية يجب القضاء عليها بصفة جذرية ” ذلك لأن اتخاذ قرار تجريم العبودية أقرب إلى الردة في نظرنا من إحراق كتب اشتملت على أحكام العبيد ، [ و ليسمع ذلك من أفتى على الأثير بارتداد بيرام من هذا المجلس ] لأن هذا القانون يجرم هذه الأحكام المستمدة من قول الله و قول رسوله ، حيث بينا في هذا المقال أن المرابطين أحرقوا كتاب ” إحياء علوم الدين ” في قرطبة و مراكش لأسباب معروفة ذكرها الونشريسي في كتابه ” المعيار المعرب ” و كذلك صاحب كتاب ” الأسباب الحقيقية لحرق إحياء علوم الدين في عهد علي بن يوسف بن تاشفين ” علما بأن ما اشتمل عليه إحياء علوم الدين من الآيات و الأحاديث أكثر بكثير مما اشتملت عليه هذه الكتب التي أحرقت بسبب ما آلت إليه فتيا تجريم العبودية . و هنا لا بد من التنبيه على طبقات المفتين و درجات الفتوى حيث بينهم الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم في كتابه ” طرد الضوال و الهمل ” حيث قال : ” أحكام القضاة عند مالك و جميع أصحابه على ثلاثة أوجه : عدل عالم ، و عدل مقلد ، و غير عدل ، ثم قال : الوجه الثاني العدل الجاهل الذي عرف منه أنه لا يشاور .. فللقاضي الذي بعده أن يتصفح أحكامه فما ألقى منها موافقا للحق و مخالفا لما عليه الناس في بلده إلا أنه وافق قول قائل من أهل العلم فإنه ينفذ حكمه .. ” قلت : فالإفتاء اجتهاد ، و لا يطلب الاجتهاد من المقصر الذي لم يتعلم إلا فروع الفقه ، كما أنه لا يطلب الاجتهاد من الأصولي الذي لم يتعلم إلا أصول الفقه و قصر في تعلم فروع الفقه كما بين ذلك ابن الصلاح في كتابه ” أدب المفتي و المستفتي ” و قال الآمدي في ” أحكام الأحكام ” : ” الاجتهاد في الاصطلاح استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحسن في النفس العجز عن المزيد عليه ، و بهذا خرج اجتهاد المقصر فإنه لا يعد في الاصطلاح اجتهادا معتبرا ، و إذا عرفت هذا ، فالمجتهد هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي و لا بد أن يكون بالغا عاقلا ثبتت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها و إنما يتمكن ذلك بشروط … ” و قد بسطنا هذه الشروط في خمسة فصول في المجلد الأول من كتابنا ” دور الاجتهاد في التجديد و التطور و إيجاد الحلول لقضايا العصر ” ، و هذه الفصول هي : الفصل الأول : تعريف الاجتهاد لغة و اصطلاحا و أثره على اختلاف فقهار الأمصار عبر الأعصار و أثره على حيوية المذاهب ، الفصل الثاني : الإلمام بالكتاب و السنة و خاصة آيات الأحكام و أحاديث الأحكام ، الفصل الثالث : الإلمام بالنسخ من الكتاب و السنة ، الفصل الرابع : الإلمام بمسائل الإجماع ، الفصل الخامس : الإلمام باللسان العربي ، الفصل السادس : الإلمام بمقاصد الشرع و أصوله و قواعده ، و أما فيما يخص بدرجات الاجتهاد ، فمختلف فيها و في أصحابها ، فعندنا أنها ثلاثة كما تقدم و هي : المجتهد المطلق ، صاحب المذهب الذي أسس أصوله ، ثم المجتهد المقيد الذي يلتزم بأصول الأول فيخرج عليها و يقيس ، ثم مجتهد المذهب أو مجتهد الفتوى الذي يقتصر على البحث عن المشهور ، بينما ذهب وهبة الزحيلي إلى جعلها خمس مراتب هي : 1 / المجتهد المستقل الذي وضع بنية مدرسة اجتهادية لنفسه ، 2 / المجتهد المطلق غير المستقل أو المنتسب ، 3 / المجتهد المقيد أو مجتهد الترجيح الذي عرف قواعد اجتهاد مذهب إمامه فالتزمها و أدرك فتاويه فأخذ بها ثم تمكن من استنباط الأحكام في الواقع ، 4 / مجتهد الترجيح أو التنقيح و هو الذي يردد أقوال المذهب دون أن يحدث قولا جديدا لكنه يتمكن من ترجيح قول لإمام المذهب ، و5 / مجتهد الفتيا أو الفقيه الحافظ للمذهب و هو يقوم بحفظه و نقله و فهمه في الواضحات و المشكلات ، و أعطى على كل مرتبة أمثلة من فقهاء كل مذهب . بينما نجد حبيب الله بن مايأبى يقول في كتابه ” إضاءة الحالك ” : ” تتمة في ذكر أمثلة طبقات المجتهدين الثلاثة من سائر أهل المذاهب الأربعة : 1/ الطبقة الأولى هي طبقة المجتهد المطلق كالأئمة الأربعة الذين دونت مذاهبهم و لم تنقرض إلى الآن و هم : إمامنا مالك بن أنس ، و الإمام أبو حنيفة ، و الإمام الشافعي ، و الإمام أحمد بن حنبل ( فالمجتهد المطلق عندنا ) معشر المالكية هو إمامنا الإمام مالك رحمه الله تعالى ( و مجتهد المذهب عندنا ) مثاله كبار أصحاب مالك كابن القاسم و أشهب و ابن وهب و أشباههم ( و مجتهد الفتيا عندنا ) و هو مجتهد الترجيح و أمثلته كثيرة فهو كالإمام أبي عبد الله محمد بن علي بن عمر المازري المتوفى سنة 536 هـ و شبهه كالثلاثة الذين ذكرهم خليل معه في مقدمة مختصره و هم أبو بكر محمد بن عبد الله بن يونس المتوفى سنة 451 هـ ، و أبو الحسن علي اللخمي المتوفى سنة 478 هـ ، و حافظ المذهب محمد بن أحمد بن رشد المتوفى سنة 530 هـ ، فكل هؤلاء بلغ رتبة اجتهاد الترجيح و قد صرح ابن فرحون بأن المازري بلغ رتبة الاجتهاد المطلق و ما أفتى قط بغيره [ يعني بغير مذهب مالك ] و عاش ثلاثا و ثمانين سنة ، و كذا وصفه ببلوغ درجة الاجتهاد تلميذه بالإجازة أبو الفضل القاضي عياض في كتابه الغنية كما قاله الشيخ محمد كنون في أول كتاب القضاء في حاشيته على الرهوني ” قلت و قد سلم ما قاله ابن فرحون عن المازري في حين نقل عنه عبد الباقي الزرقاني في شرحه لخليل عند قوله ” و لا بسملة فيه و جازت كتعوذ بنفل و كرها بفرض ” قال : كان الإمام المازري يبسمل سرا فلما سئل لماذا يبسمل سرا و قد كرهها مالك قال لأن أصلي صلاة مجمع على صحتها خير لي من أن أصلي صلاة فيها قول بالبطلان ” و هذا يفيد أنه رجح بقول خارج المذهب و قد شهروا ما ذهب إليه للخروج من الخلاف و الله أعلم .


3 / الفرق بين الفتوى الشرعية و الحكم الشرعي القضائي


قد يتساهل البعض في الفتوى الشرعية بذريعة أنها ليست ملزمة ، و هنا لا بد من وقفة و لو تأملية حول حقيقة الفتوى الشرعية و الفرق بينها و بين الحكم القضائي . قال ابن القيم في ” أعلام الموقعين ” : ” المفتي هو المخبر عن الله غير منفذ ” و بالتالي تكون الفتوى هي حكم الله ، و قال الشاطبي في ” الموافقات ” : ” المفتي هو القائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه و سلم ” قلت لقوله صلى الله عليه و سلم : ” إن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما ، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ” كما في صحيح مسلم و أخلاق العلماء للآجري ، و قال ابن حمدان : ” المفتي هو المخبر بحكم الله تعالى لمعرفته بدليله ، و قيل : هو المخبر عن الله بحكمه ، و قيل : هو المتمكن من معرفة أحكام الوقائع شرعا بالدليل مع حفظه لأكثر الفقه ” قلت و لذلك هاب الفتيا من هابها من الصحابة و غيرهم فقد روى ابن الصلاح في كتابه ” أدب المفتي و المستفتي ” قال فروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال : ” أدركت عشرين و مائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل أحدهم عن المسألة ، فيردها هذا إلى هذا ، و هذا إلى هذا حتى ترجع إلى أوله ” و عن سفيان بن عيينة و سحنون بن سعيد قالا: ” أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما ” و قد نقله قبله ابن عبد البر في ” جامع بيان العلم و فضله ” ، كما نقل عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال : ” جاء رجل إلى مالك بن أنس يسأله عن شيء أياما ما يجيبه فقال : يا أبا عبد الله ، إني أريد الخروج ، و قد طال التردد إليك ؟ قال : فأطرق طويلا ، ثم رفع رأسه ، فقال : ما شاء الله يا هذا ، إني إنما أتكلم فيما أحتسب فيه الخير ، و لست أحسن مسألتك هذه ” و عن الهيثم بن جميل قال : شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان و أربعين مسألة ، فقال في اثنين و ثلاثين : لا أدري ” و روي عن الشافعي أنه سئل عن مسألة ، فسكت ، فقيل له : ألا تجيب رحمك الله ؟ فقال : حتى أرى الفضل في سكوتي أو في الجواب ” و عن أبي بكر الأثرم قال : سمعت أحمد بن حنبل يستفتى فيكثر أن يقول : لا أدري ، و ذلك فيما قد عرف فيه الأقاويل فيه ” قلت فهذا لا يفيد أنهم لا يعرفون المسائل التي استفتوا فيها ، و إنما لأنهم لم يستحضروا جميع الآيات و الأحاديث والأقوال الواردة في المسألة ، فالحكم على الشيء جزء تصوره ، فلا بد في الحكم من شروط و هي الإلمام بجميع الآيات و الأحاديث الواردة في المسألة ، ثم معرفة المنسوخ منها ، ثم التأكد من الأقوال الواردة فيها ، و هل هي محل إجماع أم محل خلاف ، ثم القيام من تخريج المناط و تنقيحه و تحقيقه إن لم يكن في المسألة نص لإلحاق ما لا حكم فيه بما فيه حكم بعد التحقق من نفي الفارق بينهما أو لجامع علة بينهما ، مع التحقق مما تؤول إليه الفتوى مراعاة لدرء المفاسد و جلب المصالح و مكارم الأخلاق و محاسنها ، مرجحا حفظ الدين على حفظ النفس ، و حفظ الدين و النفس على غيرهما ، الخ ..


قال ابن حزم في ” مراتب الإجماع ” : ” و اتفقوا أن من كان غير عالم بأحكام القرآن و الحديث صحيحه و سقيمه و بالإجماع و الاختلاف فإنه لا يحل له أن يفتي ، و اتفقوا أنه لا يحل لقاض و لا مفت تقليد رجل بعينه بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم .. و اتفقوا على وجوب الحكم بالقرآن و السنة و الإجماع ” و بالتالي تكون الفتيا هي تبيين شرع الله دون إلزام المستفتي اتباع ما تم تبيينه إياه إلا إذا قبله و عمل به ، غير أن الوازع الديني ينبغي أن يلزمه إياها و إلا عرض نفسه للهلاك و النهج السقيم المؤدي إلى نار الجحيم و العذاب الأليم ، و قد ثبت أن الفتوى مراتب : منها ما كان محل إجماع معلوم من الدين بالضرورة ينبني على نص من القرآن صريح أو من السنة المتواترة الصريحة فمن رفضه كفر يستتاب إذا أقيمت عليه الحجة أنه من هذا النوع من الفتوى ، و منها ما هو إجماع ظني أو سكوتي ينبني على نص من الكتاب أو السنة و مخالفه فاسق لا كافر ، و منها ما هو محل خلاف لكنه الراجح و يخشى على مخالفه و إن كان لا يلزمه العمل به لفتوى مخالفة إذا قلد صاحبها ، و منها ما هو مشهور ، و منها ما هو شاذ و لا يعبأ به إلا إذا قصرت الهمم عن غيره و ذلك أصبح من المستحيل في أيامنا لما طبع من الكتب التي تهتم بالترجيح و مسائل الاختلاف ، الخ …


وأما الحكم الشرعي القضائي فهو ما يحكم به القاضي وهو نافذ إلا في الحالات التالية:


ـ قال الشيخ سيد عبد الله في “طرد الضوال والهمل” نقلا عن الخرشي: (ولا ينقضه ـ أي الحكم الصادر عن الحاكم إذا كان مجتهدا مطلقا لا تتعقب أحكامه ـ إذا خالف المشهور إلا أربع مسائل نظمها بعضهم بقوله:


إذا قضى حاكم يوما بأربعه ** فالحكم منتقض بعد إبرام


خلاف نص وإجماع وقاعده ** ثم القياس الجلي دون إيهام)


وقال في العمليات:


(حكم قضاة الوقت في الشذوذ ** ينقض لا يتم للنفوذ)


قلت وقال ابن عاصم في كتابه “مرتقى الوصول إلى علم الأصول” في فصل التصويب والتخطئة:


(وإنه لمخطئ إجماعا ** مكفر إذا خالف الإجماعا


وبعد ما لم ندره ضروره ** وهو من المسائل المشهوره


قد أجمعوا عليه في الأمصار ** في سائر البلاد والأقطار


فالمتصدي لاجتهاد مخطئ ** مفسق بمثله لا يعبأ)


خلاصة : كيف ينبغي التعامل مع الفتاوى الصادرة عن هذا المجلس ؟


إن الفتاوى التي ستصدر عن هذا المجلس كباقي الفتاوى التي تصدر عمن وصل درجة الإفتاء و رأى المستفتون أهليته لذلك . و قد مازحت رئيسه المحترم لما التقيت به لأول مرة بعد تنصيبه قائلا بأن مصداقية مجلسه ستكون على المحك انطلاقا من رجحان الفتوى وما تؤدي إليه هذه الفتوى أساسا و كذلك احترامهم لفتاوى المجالس التي أنشئت قبلهم مع أنها ليست ملزمة لهم إذا لم تكن من المسائل المجمع عليها ، فمثلا أفتت المجامع الثلاثة : المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي ، و المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي أو منظمة التضامن الإسلامي حاليا ، و المجمع الفقهي التابع لجامع الأزهر بتحريم التدخين لما تأكد لدى منظمة الصحة العالمية من ضرره على الجسم و صحته و ما يؤدي من سرطان الرئة و شرايين القلب و مع ذلك نجد منهم من يدخن و يستبيح لنفسه التدخين فلا أظن أنه سيلزمنا باتباع فتواه إذا لم يلتزم هذا بفتاوى المجامع الفقهية مع أنني أحترمه و أقدره كما أقدر و أحترم شيخنا بداه ولد البصيري رحمه الله و إيانا لكنه لما أفتى بلحوق الولد لخمسة أشهر بينا أن فتواه هذه تخالف الإجماع و الطب في نقلة بعنوان : ” تنبيه البشر إلى أن الإجماع و الطب بخلاف فتيا الأخ الأكبر بداه الموسومة ” القول المنتشر في لحوق الولد لخمسة أشهر ” فالإجماع بخلاف فتياه رحمه الله ورد في ثلاثة أبواب من الفقه هي : العدد ، و الإستلحاق ، و الحدود ، و قد نص عليه ابن المنذر في الإشراف و في الإجماع ، و ابن حزم في مراتب الإجماع ، و ابن عبد البر ، و ابن القطان الفاسي ، و ابن قدامة ، الخ … و أودعناه في المجلد الثاني والثالث من كتابنا “الإشعاع والإقناع بمسائل الإجماع” فلا أظن التعصب في هذه الحالة يفيد الشيخ و إنما كما بدأت به نقلتي متأسيا بالإمام الذهبي : ” إن الشيخ حبيب علينا و لكن الحق أحب إلينا ” ، كما أن العلامة محمد سالم ولد عدود رحمه الله أخبرني بأن الرئيس ولد الطائع لم يستشره إلا في مسائل قليلة ، منها إرسال جنود تابعة للأمم المتحدة لحفظ الأمن يقودها قائد غير مسلم ، و التطبيع مع العدو الإسرائيلي ، و أنه في هذه المسألة الأخيرة أشار إليه بما قرره المجمع الفقهي التابع لجامع الأزهر برئاسة جاد الحق جاد الحق رحم الله الجميع ” إذا كانت السلطات العربية مضطرة للتطبيع مع العدو اليهودي فإنه لا ينبغي تبادل السفراء مباشرة لأن ذلك فيه تنازل عن أراض عربية إسلامية مغتصبة ” لذلك بدأت هذه الدول تمثيلها بواسطة رعاية دول غربية فكانت السفارة الإسبانية هي التي تولت في البداية رعاية الشؤون هنا و هنالك ، فبينت في مقال نفي الفارق بين اسبانيا و إسرائيل لأنهما دولتان كتابيتان واقعتان على أراض عربية إسلامية مغتصبة و لا يجوز التنازل عن الأراضي الإسلامية مهما تقادم احتلالها . كما أنني أرجو من المجلس الأعلى للفتوى أن لا يعتمد فتوى أحد أعضائه حيث قال بأنه لم تعد هناك دار حرب لوجود المساجد في فرنسا و لا دار إسلام لوجود الكنائس في الدول الإسلامية فأردت تنبيه هؤلاء على أن مكة و المدينة لا توجد فيهما كنائس و لا يدخلهما كافر كما أن وجود الكنائس في بلاد المسلمين لا يفقدها صبغة دار إسلام لأنه في عهد الخلافة الراشدة كانت توجد الكنائس و المعابد اليهودية و قد وقع مع أصحابها ولاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظام الجزية و هذا مما هو مجمع عليه و قد ذكره ابن حزم في مراتب الإجماع .


فنحن نحسن الظن بكم و بجميع الفقهاء أيها الإخوة الكرام ما لم تقوموا بفتوى مخالفة لمسائل الإجماع أو لنص صريح من الكتاب و السنة و قد تقدم أن ذلك ينقض حكم القاضي و ما كان ينقض حكم القاضي ينقض فتوى المفتي يقينا .


و أخيرا أريد أن أنبه على واقع ينبغي أن نقبل التعايش معه لأن النزاهة العلمية تفرض علينا ذلك و هو أن تركبة المجلس الأعلى الآن لم تراع لا الحساسيات الفقهية و لا الأصولية و لا الحديثية ، فمثلا من تصدى للتدريس و الإفتاء ممن لم يضمه هذا المجلس نذكر على سبيل المثال لا الحصر : الشيخ اباه ولد عبد الله و هو مجمع على علمه و فتوته ، و الشيخ عبد الله ولد بيه و هو أحد كبار الباحثين التابعين للمجمع الفقهي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي ، و الشيخ محمد ولد سيدي يحي الذي يحضر درسه ما يزيد على 1500 طالبا ، و الشيخ محمد الحسن ولد الددو ، و الشيخ ، و الشيخ ، الخ … و هم كثر في الداخل و الخارج ، أتريدون أن يتوقف هؤلاء عن الإفتاء ؟ أليسوا أحق بالإفتاء ـ في نظر طلابهم ـ من كثير من أعضاء مجلسكم الموقر ؟ ثم إن لكل مجلس فقهي باحثين ، و لم نجد لكم حتى الآن باحثا سواكم ؟ فنحن أولاد علات يعرف بعضنا البعض و ليست المراسيم و التعيينات هي التي تجعل الجاهل العدل مفتيا كما أنها لن تقصي من رأى نفسه مؤهلا للإجتهاد و استفتي ، قال محمد العاقب ولد مايأبى :


و الاجتهاد اليوم صار أيسرا * لو كان إنسان له ميسرا *


و تعقبه أخوه محمد حبيب الله في كتابه ” إضاءة الحالك ” ص 139 قائلا : ” و كذلك مجتهد المذهب و مجتهد الترجيح لتوفر وجود آلاته بسبب ما طبع من كتب الأدلة الجامعة كمغني ابن قدامة الحنبلي ، و مجموع النووي الشافعي ، و تفسير القرطبي المالكي و شبهها ، و وجود كتب الآلات بكثرة ، و لكن انصرفت القلوب عن العلم واحدة أعرض الناس عنه بالكلية و لو تيسرت أسبابه ، فلو وفق الله صاحب القابلية الشديدة له لكان أيسر عليه الآن من الزمن السابق ” قلت و الحقيقة أن من الأصوليين من يقول بأن الاجتهاد المطلق لا يزال مفتوحا و عليه جمهور الحنابلة و بعض الشافعيين و المالكيين و الأحناف ، و ذلك لأن جميع الأصوليين و بعض الفقهاء يدركون أن الاجتهاد المطلق لا يخلو منه عصر ، و به قال من الحنابلة ابن المفلح ، و ابن حمدان ، و ابن عقيل ، و كذلك القاضي عبد الوهاب من المالكية و أما مدرسة ابن تيمية و ابن القيم فإنها تدعو إليه و تحببه ، و قد قالوا بأن الإمام المازري من المالكية بلغ رتبة الاجتهاد المطلق ، كما جزم السيوطي بأنه بلغ رتبة الاجتهاد المطلق حيث قال : ” و لما بلغت درجة الاجتهاد المطلق لم أخرج في الإفتاء عن مذهب الشافعي ” و قد نظم الشافعي ما يفيد وجود المجتهد المطلق في كل قرن ، قال : الحمد لله العظيم المنه * الواهب الفضل لأهل السنة * ثم الصلاة و السلام نلتمس * على نبي دينه لا يندرس * إذ قد أتى في خبر مشتهر * رواه كل ضابط معتبر * بأنه في رأس كل مائه * يبعث ربنا لهذي الأمه * منها عليها عالم مجدد * دين الهدى لأنه مجتهد * ” قلت و الحديث الذي أشار إليه السيوطي هو الحديث الذي أخرجه أحمد و أبو داود و الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ” إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ” و يشهد له ما رواه علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين ، و انتحال المبطلين ، و تأويل الجاهلين ” رواه أحمد و صححه و رواه الخطيب البغدادي ، فهذا يفيد أن المجلس الأعلى للفتوى له مكانته و لكن لا يمنع من التصدي للفتوى و القيام بالإفتاء لمن استفتي خاصة أن المستفتي قد يثق في غير المجلس لأسباب كثيرة .


و أخيرا أختم هذا المقال بما نقله الحطاب في شرح خليل عن القرافي قال : ” انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء من غير حجر ، و أجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر و عمر و قلدهما ، فله أن يستفتي أبا هريرة و معاذ بن جبل و غيرهما ، و يعمل بقولهم بغير نكير ، فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل ” و من نور الله قلبه فالإشارة تكفي


و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب ، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته .


كتبه العبد الفقير إلى الله : المصطفى ولد إدوم داعية مستقل و باحث في العلوم الشرعية ، الجوال : 46727242 / 22931334


|

المصدر




Filed under: موريتانيا, أقلام التغيير Tagged: موريتانيا, أقلام التغيير

No comments:

Post a Comment