Monday 12 November 2012

صديقتنا الرصاصة: موريتانيا على مفترق طرق (1)/ تحقيق “أقلام” | ‫#موريتانيا أخبار


الاثنين 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012









تحقيق “أقلام”

صبيحة يوم الأحد 14 أكتوبر 2012 وضمن إطار الاستعدادات الجارية لنقله على وجه السرعة إلى العاصمة الفرنسية، أجرى الرئيس عزيز –من على سريره في المستشفى العسكري بنواكشوط وهو نصف مستيقظ- “لقاء سريعا” مع التلفزيون الوطني قال فيه:


“أود بعد حمد الله أن أطمئن جميع المواطنين الموريتانيين على نجاح العملية التي قام بها الطاقم الطبي بصفة جيدة وأهنئهم على نجاح العملية. وأطمئن جميع المواطنين على سلامتي إثر هذا الحادث الخطأ الذى ارتكب من طرف مجموعة من الجيش على طريق غير معبد في نواحي اطويلة. والأمور بحمد الله على ما يرام ولا داعي للقلق، وأعود فأشكر جهود الطاقم الطبي على حسن أدائه”.


وبعد شهر منذ إجراء ذلك اللقاء، ما يزال الغموض سيد الموقف، سواء تعلق الأمر بالوضعية الصحية للرئيس أو بملابسات حادثة إطلاق النار عليه أو بمصير حكمه وما الذي تخبئه الأيام لموريتانيا وهي تدخل شهرها الثاني من دون رئيس في ظرفية داخلية تطبعها أزمة مؤسسية حادة وضمن سياق إقليمي تقرع فيه طبول الحرب فوق حدودها.


كعادته حاول الرئيس من خلال ظهوره الاعلامي أن يكشف عن رباطة جأشه واهتمامه بالرأي العام، غير أنه -كعادته أيضا- لم يكن مفوها ولا مقنعا، فجاءت صورته ملفوفا بالضمادات والشراشف، أبلغ بكثير من عموميات أراد قولها تتعلق بنجاح العملية وبأن الحادث كان نتيجة خطأ وبأن “الأمور على ما يرام ولا داعي للقلق”، على طريقة مقدم البرنامج الشعبي المعروف ب”البلاغات والاتصالات الشعبية”!


وبسرعة مذهلة تلقفت وسائل الاعلام “الصورة الجديدة للرئيس” وهو يرقد على سرير طبي، محاطا بأطباء وممرضين وصحفيين مذعورين ويهوي عليه من أعلى رفيق دربه ورجل ثقته اللواء محمد ولد الغزواني وهو يحاول إخفاء أنابيب الحقن المرتبطة به، فتشكلت وعلى وجه السرعة أيضا “صورة جديدة” لما كان يعرف قبل ذلك التاريخ برجل موريتانيا القوي الذي دأب على السخرية من “عجائز المعارضة” وعلى السعي للمحافظة على لياقته البدنية والظهور بمظهر الحاكم القوي الذي لا يعبأ بغيره.


ومنذ ذلك اليوم والمقربون من الرجل يحاولون جاهدين إصلاح ذلك العطب الذي أصاب الصورة الرئاسية، ولحد الآن لم تفض مختلف محاولاتهم إلا إلى نتائج عكسية، فتضررت الصورة أكثر فأكثر لدرجة أن مراقبين يقظين باتوا يعتقدون أنه لم يعد من الممكن إصلاحها مهما رصد لها من طاقات نظرا لحجم العقبات التي تعترضها والتي تتعلق في جزء منها بالوضع الصحي الحرج للرئيس، فيما يتعلق جزؤها الآخر بالإشارات غير المطمئنة التي تصدر عن الماسكين الفعليين للحكم بعد رحيله وبتنامي الصراع داخل الدوائر العليا للسلطة؟


هل تعرض الرئيس إذا “لانقلاب صامت” ما زال منفذوه يتحينون الفرص للإعلان عن نواياهم؟ هل تعرض لمحاولة اغتيال نفذتها جهات داخلية للانتقام من الرجل أو دبرتها أطراف إقليمية أو دولية تسعى لتصفيته قبيل انطلاقة المعارك في الشمال المالي؟ أم أن عزيز يدفع ثمن تهوره ومغامراته؟


وبغض النظر عن دوافع حادثة إطلاق النار على الرئيس، فهل تكون “النيران الصديقة”التي اخترقت جسده نجحت أيضا في اختراق سلطته مؤذنة بوضع حد لنظام حكم ملأ الدنيا وشغل الناس؟ وكيف سيواجه الموريتانيون وضعا مماثلا في ظل أزمتهم الدستورية والمؤسسية ووسط الاستقطابات الحادة التي تعصف بالمشهد السياسي والاجتماعي؟ أم أن النظام الأمني الذي بناه الرجل واجتهد في بنائه قادر على الصمود في وجه العاصفة في انتظار أن تنتفض العنقاء من رمادها لتعود المياه إلى مجاريها؟


مساء عادي جدا حتى…


يحتفظ التاريخ بأحداث كثيرة حصلت يوم 13 اكتوبر لعل من أقدمها: اعتلاء الطاغية نيرون عرش الامبراطورية الرومانية سنة 54، بدء محنة حركة فرسان الهيكل سنة 1305، وضع الحجر الأساس لمبنى البيت الأبيض في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1792. ومن أكثرها حداثة: اغتيال رئيس الوزراء البوروندي سنة 1961، حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب سنة 1988، الهجوم على معقل الجنرال ميشيل عون في لبنان وطرده خارج بلاده سنة 1990.


غير أنه لم يكن هناك ما يشي بأن مساء يوم السبت 13 اكتوبر 2012، سيحظى بحدث بارز يحتفظ به التاريخ ولا حتى بحدث سيميزه عن باقي مساءات نواكشوط التي استعادت رتابتها منذ أشهر بعد صيف سياسي ساخن وبدت وكأنها تتأهب للاحتفاء بموسم شتاء طال انتظاره. كانت العاصمة تعيش ما يشبه حالة هدنة غير معلن عنها بين السلطة والمعارضة، تخترقها من حين لآخر تصريحات “معادية” ما تلبث أن تتلاشى خلف واقع التردي المتزايد للظروف المعيشية للسكان وانتشار موجة من اليأس من إمكانية حصول أي تغيير في طريقة تسيير الشؤون العامة على المدى القريب.


لقد اختفت تدريجيا “موضة” الاحتجاجات الشعبية أمام القصر الرئاسي وفي ساحات وشوارع العاصمة وتحول الحديث عن الانتخابات إلى سجال عقيم حول إمكانية تنظيمها، فلم يكن مفاجأ أن تعلن السلطة انتصارها على دعوات الرحيل سواء من خلال رئيسها الذي تألق في برنامج “لقاء الشعب” بداية شهر أغشت 2012 وهو يقدم حصيلة جد إيجابية –مدعومة بشهادات بعض الممولين الدوليين- أو على لسان رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية حين أعلن يوم 1 أكتوبر 2012 لدى افتتاحه أشغال ندوة ينظمها حزبه أن:


“الحصيلة مشرفة وأن الرئيس محمد ولد عبد العزيز أنجز وعده الانتخابي، وله تأسيسا على ذلك عقد مدني وسياسي ثابت دستورا وقانونا وعرفا مدنيا وديمقراطيا مع الشعب الموريتاني كافة، موالاة ومعارضة من شاء منهم ومن أبي.. من سره ذلك ومن أزعجه”.


ومع ذلك لا يمكن القول بأن منسقية المعارضة الديمقراطية قد استسلمت للأمر الواقع، بل إنها كانت تستعد حثيثا للإعلان يوم 15 اكتوبر -من خلال مؤتمر صحفي- عن برنامج نضالي لاستئناف احتجاجاتها الجماهيرية المطالبة برحيل النظام وإن كانت قد بدأت تنظر ببعض الاهتمام إلى مبادرة رئيس الجمعية الوطنية مسعود ولد بلخير الذي كان قد سلم نسخة منها يوم 12 أكتوبر للرئيس عزيز خلال لقاء جمع بينهما لم يعلن عنه إلا بعد حادثة إطلاق النار.


هل كانت الأجواء مهيأة إذا لنوع من التوافق الوطني حول خارطة طريق تضع حدا لأجواء الاحتقان الداخلي وتمهد لتنظيم انتخابات بلدية ونيابية ورئاسية تحت إشراف حكومة وحدة وطنية؟ وهل جاء ذلك التوجه نحو التوافق نتيجة إعادة تقييم موضوعية لواقع ميزان القوة بين الأطراف المتصارعة؟ أم كان استجابة لضغوط يفترض أن السفارات الغربية –والسفارة الفرنسية بالذات- مارستها على أهم الفاعلين السياسيين بهدف توحيد الجبهة الداخلية الموريتانية غداة التدخل العسكري في الشمال المالي؟


وفي الحالة الأخيرة ما الذي يمنع مبادرة مسعود –التي هي في جوهرها إعادة لصياغة مجموعة مبادرات طرحت في الساحة من طرف قوى سياسية ومدنية مثل حزب عادل ومبادرة “نداء من أجل الوطن”- من أن تكون التجسيد الواقعي للروح التوافقية التي سادت أو كانت في طريقها لأن تسود بين صناع القرار، خصوصا وأن المبادرة لم تأخذ شكلها النهائي إلا بعد سلسلة مشاورات وأن أيا من الأطراف لم يعبر بشكل علني عن رفضه لها؟


مهما يكن فإنه من غير الوارد الجزم بأن تلك الروح التوافقية قد شملت مختلف تلوينات الطيف الوطني وخصوصا جبهته الاجتماعية التي حافظت طوال الوقت على وجود بؤر احتجاجية لدعم المطالب العمالية، كان من أكثرها بروزا في الفترة التي سبقت الحادث اعتصام مجموعة من الأساتذة على مقربة من مكتب وزير الدولة للتهذيب ولد باهية الذي فضل التواري عن الأنظار بدل مواجهة من يتهمونه بالتعسف.


كما حافظت حركات الاحتجاج الشبابية المتأثرة بأجواء “الربيع العربي”، على مستوى من التعبئة وخصوصا حركة 25 فبراير. وفي الثالث من أكتوبر أطلق مجموعة من المدونين حملة “دون ضد شركات التعدين الأجنبية”، فيما تباطأت النشاطات الاحتجاجية لمبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية (إيرا) بعد إطلاق سراح زعيمها بيرام ولد اعبيد والمعتقلين معه على خلفية ما بات يعرف بمحرقة أمهات الكتب المالكية.


ومع أن حدة الاستعراضات الأمنية التي كانت تعرفها العاصمة من حين لآخر خلال الأشهر الماضية، قد تراجعت بشكل ملحوظ، إلا أنه منذ بداية شهر أكتوبر كان على “الليليين” في نواكشوط أن يتأقلموا مع انتشار مكثف لقوى الأمن ومع عمليات التفتيش –الدقيقة أحيانا- لسياراتهم من دون معرفة مسوغات ذلك الاستنفار الأمني الذي سيختفي مباشرة بعد حادثة إطلاق النار على الرئيس!


تلك الرتابة مع عدم اليقين، كانت تنعكس على الصحافة الوطنية فلا تترك لها ما تهتم به أكثر من مواضيع ثانوية بالنسبة لها (مثل: الأسابيع الجهوية للثقافة والرياضة، تعيين أسقف جديد لكنيسة نواكشوط، إقالة النائب العام المصري…) قبل أن تندلع أزمة الحجاج الموريتانيين وتتصاعد الاتهامات بين وزارة التوجيه الاسلامي والموريتانية للطيران حول المسؤولية عن الصفقة المشبوهة التي تسببت في تأخر ترحيل الحجيج.


غير أنه بانقضاء أولى ساعات ليل الأحد، بدأت الأمور تأخذ منحى آخر. بدأ تداول الخبر في شكل “همسات” عبر الهواتف وتساؤلات حذرة داخل مواقع التواصل الاجتماعي، بعضهم تصوره مجرد نكتة فيما سقط كالصاعقة على البعض الآخر! ما الذي يجري في العاصمة؟ هل لديكم خبر عن الرئاسة؟ هل أصيب الرئيس في حادث إطلاق نار؟ هل شددت الحراسة على المستشفى العسكري…؟


سيل من التساؤلات كانت “وكالة الطواري الإخبارية” أول من حاول الاجابة عليه من خلال خبر مقتضب نشرته الساعة الثامنة وأربعون دقيقة نسبت فيه لمصادر موثوقة “أن سيارات تابعة للحرس الرئاسي وصلت -قبل قليل- إلي مباني المستشفي العسكري بمقاطعة لكصر في العاصمة نواكشوط. وحسب معلومات غير مؤكدة فإنه ربما يكون رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز قد أصيب بطلق ناري”.


كثيرون هم من لم يريدوا تصديق ما سمعوه أو قرأوه، غير أن الرئيس كان يرقد في المستشفى العسكري فعلا ومن حوله ممرضون وأطباء يحاولون إسعافه لكنهم في نفس الوقت يرتعدون من الخوف لاعتقادهم بأن الجهة التي أطلقت النار على الرئيس ستتبعه إلى المستشفى للإجهاز عليه. لم يكن بإمكانهم تصور غير ذلك وبعضهم قد شاهد الرئيس يدخل المستشفى لوحده من دون أية حراسة والدماء تنزف منه بغزارة مخيفة! وكأنه فر للتو من معركة ضارية!


كيف وصل الرئيس إلى المستشفى؟ ما حجم إصابته؟ متى أصيب، كيف، أين ولماذا؟ وما الذي جرى تلك الليلة داخل المستشفى العسكري…؟ تساؤلات مع غيرها شغلت الموريتانيين والمهتمين بشؤون دولتهم تلك الليلة وما تزال تشغلهم. وفي غياب معلومات دقيقة ومقنعة عن ملابسات “الرصاصة الصديقة”، كان على الشائعات أن تحتل الواجهة، بالإضافة إلى رواية –أو روايات- رسمية بدت مهزوزة في أعين الكثيرين.


هل يمكن أن تكون هناك “حقيقة” على وشك الضياع ما بين وهج الشائعات وزخم الروايات الرسمية؟ ذلك ما سنحاول الكشف عنه من خلال حلقات هذا التحقيق الذي لن يكتفي بالبحث في ملابسات الرصاصة بل سيسعى أيضا لملاحقة مرحلة ما بعد الرصاصة. ذلك أن موريتانيا تجثم اليوم على مفترق طرق وكأنها تلتقط أنفاسها لتودع مرحلة من تاريخها أو كأنها تتحسس خطاها بحذر حتى لا تنزلق نحو المجهول!


تحقيق من إعداد “أقلام”


عودة للصفحة الرئيسية




المصدر




Filed under: موريتانيا Tagged: موريتانيا

No comments:

Post a Comment