الثلاثاء 18 أيلول (سبتمبر) 2012
| اسلامه احمد الحسين |
لا أدرى من اي ومضات سيرة آخر الحواريين أبدأ ولا من أي سنى مثله أنتهى فما علمت منها على قلته لا يلمع فضاله ولا يجلى مسلكه وطريقته المثلى.
كثيرون نالوا من فيض علمه وحلمه وأكثرهم نالوا عونه وأزره ولكن من مِن هؤلاء وألائك أبصروا حقيقة الشيخ الصديق لا كعالم نصوص وفروع.. أو مدرس مناهج ومقررات.. أو كمفتي لأحكام ونوازل ..أو موظف لدوائر وهيآت.. أوحتى كأب وجد يدبر شؤون بيته العامر بجميع أطياف أمته.
لا أدَّعى لنفسى فراسة بصرت بها كنه الشيخ ولكنى احتارإن كان مثلى ممن حظوا بلقائه حصل لديهم الاحساس الذى حصل لدي عن الصديق: الإنسان والروح.. لا الصديق المعارف والمربى.
وبما أنى حظيت بالقرب منه لفترة أرى انه من واجبى أن اسجل هنا قبسا من نورخلقه السامى الذى هو بحق اقتداء واقتباس من خلق المصطفى عليه الصلاة والسلام . ولن أطيل فى تقديم كثير من صور ومعانى سجية الشيخ محمد عبد الله الصديق الخلقية فهي اكثرعددا وابلغ معنى مع يقينى انى مهما تماجدته لن اوفي ذرة من حقه.. وساكتفى بسرد بعض المواقف التى تنبئ عن جوهر هذا العالم المغمور والرباني الاندر.
• الصديق وتجاهل منزلته :
كان الشيخ رحمه الله لايحشر نفسه الا حيث طلب منه الايضاح حتى فى اهم الامور لديه وهو العلم فتجد طلابه وجلساءه يتجاذبون المسالة عن بينة او غيرها فلا يخطئ هذا ولا يصوب هذا فلما يسأله أحد يجيب بصيغته المشهورة ( ظاهرلى عنه كذا.. شوف كتاب كذا فى مكان كذا ) حيث توحى لك الاحالة بأنه غير محتاط بتلك المسألة وهو لها محيط.
• الصديق وأثرياء ووجهاء الخليج: كان مجلس الصديق فى العاصمة الاماراتية موردا لكثير من وجهاء ورجال اعمال الامارات ممن عرفوه او سمعوا بعلمه وزهده وتواضعه فمنهم من كان ياتيه ليستفتى او يتعلم ومنهم من كان يطلب المشورة والدعاء ومنهم من يتيممه تبركا ومحبة.
ورغم ان محبته والعجب به وبسجيته تملكت اولائك الخيرين من الوجهاء والتجار الى حد ان بعضهم استاء من قرار الشيخ الاستقالة والعودة الى موريتانيا طالبين منه البقاء وعارضين عليه امتيازات اكبر من تلك التى كانت عنده فى الدائرة التى انتدبته من موريتانيا .. الا انه لم ينل من هولاء اي حظوة مادية او عطاء دنيوي ليس لانهم لم يعرضوا او يقدموا فقد سمعنا قصصا كثيرة عن عروضهم ولكنه كان رحمه الله يعتذر عنها بحجة انه فى غنى عنها.
• الصديق والكرة :
فى أحد الايام كان منهمكا فى قراءة احد كتبه وكان بجنبه فى صالة الضيوف فى بيته بابوظبي اطفال بعض الجيران يلعبون وبين الفينة والاخرى تسقط عليه كرة الاطفال فينهرهم بسجيته اللينة السمحة ( اهناوعنا اسلمكم ) والتى يتداخل فيها النهرالعرضي والامر الجدي ولكن الاطفال يتمادون فى اللعب بجنبه لعلمهم بان بأس الشيخ لن يتجاوزنهرته السابقة ( اهناو عنا).
وهكذا تسقط الكرة من جديد على الشيخ وكتابه فيصل هذه المرة الى اسلوب التهديد لثني الاطفال عن التشويش عليه .. لكن كيف هدد الشيخ الاطفال؟ لقد قال لهم ( الين ما تهناو عنى لاه نطلع عنكم الفوق..! ) .
غير ان المفاجأة بالنسبة لى ليست هي تهديد الشيخ فانا اعرف من خلقه وطبعه ان هذا هو اقصى ما سيقوم به من تهديد ووعيد وانما فاجأنى أن الاطفال انسحبوا طواعية اما لان فى الامر الهاما الاهيا أو أنهم من طول ملازمتهم للبيت والفتهم بالشيخ وعوا بشكل غير ارادي ان فعلتهم آذت الشيخ حتى هددهم بالانسحاب عنهم فساءهم فعلتهم وذهبوا.
• الصديق وعامل المنزل :
كان فى بيت الشيخ عامل بنغالي اسمه عبدو ولاحظ من وجوده الطويل فى البيت ان الشيخ لايهمه سوى كتاب يقرؤه او طالب يدرسه وذات يوم طلب منه الشيخ ماء للشرب الا ان العامل ابطأ عليه مما جعل الشيخ يلح عليه فقال البنغالي للشيخ ممازحا : يا شيخ آن ربابي فلانة ( رباب فى عربية الهنود بالخليج العربية تعنى رب العمل) وهو يلمح الى انه لايخشى العقاب من الشيخ اذا قصر فقال له الشيخ مما زحا : لاتنس ربابتك فى ابلادك! يقصد ان رئيسته فى بلاده بنجلادش سيدة كما ان رئيسته فى بيت الشيخ سيدة .
• الصديق والثقلاء :
دأب الشيخ على مطالعة كتبه فى الصالة الرئيسية للبيت حيث الضيوف والزوار والقاطنون فى بيت الشيخ الذين كانوا فى الغالب من شباب الجالية الموريتانية الباحثين عن العمل او العاملين فى دولة الامارات العربية المتحدة حيث لم يكن الجو الذى يطالع فيه هادئا مطلقا نظرا لنقاش وجدال الشباب الذى يصل احيانا الى حالة الازعاج لسخونته وصخبه ومع ذلك ترى الشيخ منكبا على كتابه يقلب صفحاته يمنة ويسرة وكأن مبعث كل هذا الصخب والضجيج مكان غيرالمكان الذى يطالع فيه.
الحالة الوحيدة التى تلحظ فيها ان الشيخ يحس بهذا الصخب والضجيج هي عندما تسمعه يقول لاحد المستفتين فى الهاتف ( مان سامعك.. ارفع صوتك .. احذاي ناس يتكلمو..!) هكذا تدرك ان الشيخ يحس بما يجرى ولكنه لا يعبر عن امتعاض ولا تذمر ولا يقول لهذا او ذاك لم فعلت .
• الصديق وحب الكتاب:
سمعته يقول انه ذهب ذات يوم فى سبعينيات القرن الماضى فى العاصمة انواكشوط لشراء اللحم للاسرة وكانت بحوزته ماتا اوقية وفى الطريق مر ببائع كتب متجول فوقف يقلب طرفه فى تلك الكتب حيث عثر عنده على كتيب لم اعد استحضر اسمه فقام بشرائه بتلك المائتين وعاد الى اهل الصديق بالكتيب بدل اللحم.
• الصديق ومشايخه:
المطالعة والتدريس والفتوى هي اغلب مستغرقات وقت الشيخ وهناك اوقات بين هذه وتلك يتبادل فيها الشيخ اطراف الحديث مع الطلبة والزوار يتخللها المرح والدعابة وكان اكثر المواقف التى تمتع الشيخ ويعلو الفرح والامتاع وجهه هي تلك التى يتحدث فيها عن بعض المواقف الطريفة التى حدثت مع شيوخه وخاصة شيخاه العالم ابراهيم بن امانة الله المعروف ب(اباه) والعالم اعمر بن محم بوب .
• الصديق وفالة بنت مايابى :
يكاد حديث الشيخ عن ماضيه العلمي لايخلو من ذكر لعمة والدته السيدة الفاضلة فالة بنت مايأبى حيث كانت أساريرالفرح والمحبة والاعجاب لاتفارق قسمات وجهه وهو يحدث عن هذه السيدة التى عرفت بالعلم والورع وحب العلم والعلماء.
ورغم كثرة وتكرار حديثه عنها لم نسمعه يوما يقول عمة والدتى فالة حيث كانت بالنسبة له اقرب منزلة من عمة الوالدة بل كانت اقرب من منزلة الام وهي التى اضافت الى حنان الام تهذيب المعلم ونصح المربى لذلك لاتفارق حديثه عبارات : قالت لى فالة .. وعلمتنى فالة .. ودعت لى فالة.. وذكرت فالة .. الخ.
واذا كان من أحد ورَّثه الشيخ حب فالة فهو ابن اخيه و اقرب تلاميذه الى قلبه ومستودع ثقته يحي بن محمد الخضير وهو بحق أهل لمحبة الشيخ خلقا وعلما وأدبا.
• الشيخ والمعلم البنغالي :
طلب الشيخ من أحد البنغال العاملين حاجة ما ولكن البنغالي لم يفهم طلب الشيخ فما كان منه الا أن قال للشيخ أنت لاتعرف العربية بالصيغة المكسرة لعربية الهنود فى الخليج العربي ( أنت ما فيه معلوم عربي) فقال له الشيخ : الله المستعان ما ابخلناه شى ..!
ولك ان تتصور مدى طرافة أن يقول بنغالي لآخر علماء العربية انه لا يعرف العربية. فرحمة الله عليك يا صفوة الاولياء الاتقياء والصالحين وفقيد الكتب والعلماء سقى الله مرقدك بشآبيب رحماه كما سقيت المآت علما وخلقا واحسانا.
Filed under: موريتانيا Tagged: موريتانيا
No comments:
Post a Comment