الأربعاء 24/يونيو/2009. نحن الآن نحلق في هذا الأفق المترامي، نبتعد عن أحضان ولاته الدافئة، لتسلمنا لموريتانيا الأعماق، موريتانيا بأفقها الرحب الذي يمنح الشعور الكامل بالحرية بقدرما يمنح شعورا موازيا بالمسؤولية. نتجه غربا صوب تامشكط التي تجدد خضاب أصابعها بالحناء استعدادا لعرسها الجميل. هدير المحركات يصم الآذان، ويبدو أن شيئا ما أصابها.. الكثبان البعيدة تبدو كخطوط معوجة خطتها ضاربة رمل؛ فهي تتوهج تحت شمس تكاد تشرق وتتوعد بيوم قائظ..
كنا نتواصل بالإشارات. لا أحد يسمع من أحد. لكن شيئا وقع. ماذا جرى؟ يبدو أن الطائرة تقترب من الأرض. المصور قربي أشار إلي طلبا لمعرفة الوقت، وإلى جهة الأرض، ظن أن عليه أن يجمع معداته استعدادا للهبوط، لكني أشرت إليه بالنفي، وأن الساعة مازالت مبكرة، وأننا لم نطر لأكثر من ساعة.
الساعة الآن لاتتجاوز السابعة والنصف.. يبدو أن صوت المحرك يتضاعف، وأن هناك خطبا ما وقع. لكن الطائرة ترتفع من جديد. ويبدو أن فريق القيادة قرر أن تأخذ الطائرة نفسا من الهواء ليعيد المحاولة من جديد. أصبح من الواضح الآن أن الطائرة تهبط اضطراريا. وبأعصاب هادئة قام الطيار ومساعده بإنزالها، وفتحوا الأبواب، وطلبوا من الركاب فك الأحزمة، والنزول. دخان يتصاعد. نزل الجميع. وبدا الهدوء واضحا على الجميع. أحسست للحظة أنني أنزل على سطح القمر، وفي لحظة تغير المشهد.. كنا نسبح في الفضاء الفسيح، فإذا نحن في أحضان مفازة.. تمتد رمالها الذهبية الوردية، على مدى الأفق، الشجيرات والأعشاب المنتشرة هنا وهناك، وتخرس الطائرة.
بعد انتشار رائحة دخان أقرب إلى أثر التماس الكهربائي.. وبعد تفحص حذر للطائرة من طرف طاقمها.. الحكم الذي صدر من الطيار واضح وقاطع ومحير: “لا يمكن للطائرة أن تقلع مرة أخرى”.. الكل في سريرته يحمد الله على النجاة، دون أن يحرك شفتيه، ففي هذا النوع من المواقف حين يشعر الإنسان بأنه نجا من مصير محقق، يحاول أن يتظاهر بعكس مايجنه.. أو أن الحدث كان أسبق وأسرع من ردة فعله..
لم أشعر بالخوف لكن أظن أنه بعد الحادثة أصبح كل منا يغرس رجله في الأرض أكثر ليشعر بأنه غير معلق بين السماء والأرض، فلا شعور بالأمان أكثر من ملاصقة هذه الأم الغبراء.. لاأحد ينبس ببنت شفة، الهدوء يسود الجميع لكن الحيرة أيضا تحوم حول الموقف..
من الواضح الآن أن الأنظار تتجه صوب القائد، الرئيس في المقدمة، وصحبة الطيار يحاول الرئيس تحديد إحداثيات الموقع بدقة، هناك اتصال لتحديد الموقع من طرف مدير التشريفات التومي، بواسطة الثريا، والتأكيد على إبقاء الحادث في دائرة السرية ما أمكن..
القافلة تتحرك. لقد رأى التومي قبيل هبوطنا الاضطراري خياما قريبة إلى حد ما، مما يعنى أننا في منطقة مأهولة.. الأمر في منتهى الأهمية، فنحن لا نملك قطرة ماء…. الطائر المهيض الجناح يقبع وسط الرمال السائلة في اتجاه تقرره رياح قُلَّب. دخان أبيض يتصاعد منه ورائحة دخان البلاستيك تشعرك أن الإصابة بالغة، وسائل أصفر ينزف من مستودعات الوقود أو الزيوت..
وانطلقنا نسير في اتجاه الخيام، البعيدة نسبيا عدة كيلومترات، وكأننا وسط مركب شراعي تحركه ريح رخاء.. فالجميع يحملق في هذا الأفق المفتوح على أبواب من العدم، لكن الشعور بمتعة التجربة كانت تغويني، وأنا أشعر بأن النجاة من هذه الحادثة دليل واضح على أن المهمة التي نسعى إليها ستتحقق.. مجرد شعور!.. كل واحد منا يسعى إلى أن يجد أثرا للحياة على هذا الأديم المترامي الأطراف.. الشاب أحمد، وهو أحد الحرس الخاص يرى راكبا يحث الخطى بعيدا.. أسرع في اتجاهه.. انتهزت أنا فرصة وجود حقف وردي ناعم قريب، فصليت ركعتين.. الرئيس رأى جملا يحمل على هودج طفلا وامرأة فقال: “يوجد حي قريب”.. وعلى أثر الجمل سرنا: الرئيس وأنا وقيس، كنا نقص أثره لكنه كان ينزاح بنا بعيدا عن المنطقة، بسرعة ..
Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا
No comments:
Post a Comment