Sunday, 1 July 2012

‫#موريتانيا‬‏ أيام الصبا (4): آل اباه في نواكشوط





في 12-12-1984 وصل آل “اباه” إلى مدينة انواكشوط الفتية مهاجرين بأمتعتهم وأنفسهم بعد كارثة “الغزلان” وسنين عجافا أعقبت ذلك الإعصار لتأتي على ما بقي لهم من بقر وغنم وإبل وماعز تمثل خلاصة ثلاثين عاما من حياة البادية القاسية.


على متن سيارة من نوع ” لاندورفر” وصل آل “اباه” إلى انواكشوط حاملين معهم أملا في حياة جديدة بعدما سمعوه عن هذه المدينة “الساحرة” التي قيل لهم في وصفها أنها جنة الدنيا وأنها ستعوضهم عن حياة البؤس التي كانوا يعيشونها. هكذا كان يردد “اميجن” في مجالسه ويدافع عن هذا الرأي لأنه سمعه من المذياع الخرب الذي ورثه عن أبيه. “اميجن” يعتبر أن كل ما يأتي من المذياع هو كلام مصدق لا يقبل التحريف ولا التأويل وهو كذلك،أي “اميجن”، لآل اباه الموجه والمرشد والهادي بعد الله إلى سواء السبيل .


استقبلتهم أسرة من أبناء العمومة وتقاسمت معهم منزلها المتواضع المكون من غرفة لم يكتمل بنائها وكوخ صغير وحمام خارجي. كان عدد أفراد الأسرة يزيد على العشرين منهم أبنائها وأبناء العمومة وأبناء السبيل. لقد كانت تلك الدار على بساطتها محل كل عابر سبيل وكل ذي قربي.


سكن “اباه” و”اميجين” و”بلال” مع سبعة نفر تقاسموا معهم تلك الغرفة الضيقة. كان “اباه” يخرج في كل صباح يبحث عن عمل يجلب له دخلا، فتراه تارة يعمل ناقلا للماء وأخرى خياطا ومرة في دكان صغير، وحتى أنه في بعض الأحيان حمالا. لقد يعمل اليوم كله في الحرف الحرة وفي الليل يحرس سيارات الجيران من أن تسطوا عليها الذئاب الليل وكلابه.


نشأ “جمال” فتى ودودا ذكيا مجدا في دراسته، مجدا في لعبه، مجدا في اقترابه من الله. كان محبوبا عند أهله وجيرانه وعشيرته. أحرز المركز في الصف الأول والثاني والثالث في ابتدائية “القدس” في بوحديدة.


ابتدائية “القدس” هي مدرسة عتيقة أنشأت قديما في ذلك الحي وسُميت على أم المدائن: القدس، ليُزرع حبها في كل فتى وفتاة دخل تلك المدرسة وليعرف شباب موريتانيا الغد أن لهم أرضا مغتصبة أُخِذت في حين غرة وعلى غفلة من العرب والغرب وعليهم أن يسعوا إلى تحريرها.


كان جمال يحفظ عن ظهر غيب أبيات ولد عبد القادر الخالدة:


عرج بلبنان واذر الدمع منسجمــا:::: وابك الهموم ولا تستنهض الهمما


لو ينفع الأهل شكوى الأهل ما رحلت :::: كتائب الفتح تحدو الموج ملتطما


مهاجرون بأسيــــاف مهاجـــــرة :::: تحكي القلوب مضاء والدماء دما


بعد سنتين من القدوم إلى انواكشوط وجد” اباه” فرصة عمره، فقد استدعاه أحد أقاربه المقربين من الحاكم الجديد وأخبره أنه إن نجح في مهمته التي سيكلفه بها فسيّغير مسار حياته وينقله من حمّال أثقال على عربة حمار إلى أحد أباطرة التجارة في البلد.


فكر “اباه” مليا في العرض ورأى حال أسرته وعشيرته، إنه أصبح يخاف على نفسه وأسرته من الغد المجهول، يخاف أن تضيع ثلاثين عاما ونيف من عمره هدرا ويرحل عن الدنيا ليترك ولده شريدا دون مأوى.


وافق على العرض وما كان عليه إلا أن يجمع شتات قبيلته ومن والاهم من الموالي ويقنعهم أن يصوتوا بإجماع على مرشح المقربين من النظام. وعدهم أنه سيوفر لمن يسكن منهم في انواكشوط الرزق والمأوى وفي خارجه سيجلب لهم السعادة والأمان وسيبدلهم من بعدهم خوفهم أمنا ومن بعد مسغبتهم اكتفاء وغني.


صدق المساكين مزاعم “اباه” وصوتوا بإجماع لمرشح الحزب الجمهوري الذي كان قيد التأسيس. نال “اباه” حظوة عند أهل الحكم حيث عُين مباشرة مديرا لثانوية “الكرامة” رغم أنه لم يدخل مدرسة ولم يحمل قرطاسا. لكنه حظه السعيد، كما يرى، قد حمله إلى هذا المنصب.


أصبح “اباه” يملك منزلا خاصا به وتغيرت حياته حيث صار يتعالى على أصحاب الأمس ويترفع عنهم ويعتبر نفسه من المتمدنين الذين لا تليق بهم مجالسة البدو. اختار أن يبتعد عن كل أبناء عمومته الفقراء وأن يدخل حياة جديدة عنوانها الأبرز البحث عن المال بأي وسيلة شريفة كانت أم وضيعة.


لم يعجب “اميجن ” حالُ سيده الجديد وفضل البقاء مع أهله وعشيرته في المنزل البالي في ضواحي “بوحديدة”. كان يحتسي كؤوس الشاي صباح كل يوم ويستمع إلى مقاطع من الراحلة “محجوبة” وعند الساعة الرابعة يستمع باهتمام بالغ إلى إذاعة “البي بي سي” في مذياعه الخرب وهي تنقل أنباء حرب دائرة في الخليج بين إيران والعراق. كان “اميجن” يقول أن العراق سينتصر لأن رجلا اسمه “صدام” جميل الطلعة قوي البنية وأن فيه عروق دماء أسياده السابقين، “أولاد مان”. لهذا كان “اميجن” يقول أنه “عَرْبِيه”.


أما “زينب” فقد أصبحت “سيدة مجتمع” من الطراز الخاص حيث كانت تتصنع الأناقة والتحضر مع أن عادات البادية تسكن أحشائها. فهي مثلا تحاول تقليد حركات “فيروز” ومشية “سعاد حسني” ونغمة “أسمهان” الساحرة، لكنها تفشل في كل ذلك وتصبح مثيرة للضحك حين تملأ وجهها بأدوات تجميل لم تتعود عليها من قبل.


“بلال” قرر الانفصال عنهم والبحث عن عمل آخر أكثر شرفا من بيع الأصوات في المواسم الانتخابية. فهو شاب طموح لكنه ساذج ومغفل وطيب جدا. لقد أصبح حمالا للأمتعة عند أحد التجار الخبيثين. لقد كان يعطيه 5 أواق في اليوم ويعده بأنه سيكون من أهل الجنة لخدمته له. يصدق المسكين التاجر الملتحي ويرضي بنصيه العاثر بعد أربع وعشرين ساعة من الكد والألم.


لا يزال “بلال” رغم مآسي الحياة يذكر “ليلى” حبه الأول فهو يلاقيها كل ليلة في الحلم لكنه يصحو على كابوس. ولا عزاء سوى أبيات يحفظها لمجنون ليلي :


اذا اكتحلت عيني بعينك لم تزل …. بخيرٍ وجلّت غمرة في فؤاديا


ولم أر مثلينا خليلي صبابة …. أشد على رغم الأعادي تصافيا


خليلان لا نرجوا اللقاء ولا ترى …. خليلين إلا يرجون التلاقيا


فهو ورده اليومي الذي يردده صباح مساء. إنه ورد العاشقين المحبين. حتى لو كان غبيا لكنه عاشق. “العشق لا يحتاج إلى ذكاء”، هكذا يردد “اميجن” دوما عند رؤيته له.


“جمال” أصبح لا يراجع دروسه وصار يطيل السهر مع فتيان الحي ويدمن الذهاب إلى سينما “كابتال “. أصبح يدخن بقايا السجائر وتغير وجهه الجميل إلى وجه كريه مكفهر. وبقدرة قادر تحول إلى فتى طائش يوشك على الهلاك.


استاء “اميجن” من حال حفيده وقرر أن يأخذ المبادرة في ظل انشغال الأب والأم بمظاهر الحياة الجديدة. أخذ قراره بأن يرسل قرة عينه إلى أقصي “الكبلة” لعل شمس تلك الأرض القاحلة وأخلاق أهلها يردونه لسيرته الأولى.

لكن “اباه” رفض العرض وطرد “اميجن” من الدار فرجع الأخير دامع العينين مكفهر الوجه لكنه أصر أن ينقذ “جمال” من المصير المجهول.


يتواصل



أقــــلام حرة




Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا

No comments:

Post a Comment