الأحد 2 أيلول (سبتمبر) 2012
| د. حمودي ولد شيخنا ولد عالي |
لقد عرف العالم خلال السنوات الماضية موجة جفاف قوية أثرت على الاقتصاد العالمي بما فيه كبريات الدول المصدرة للغذاء في العالم، فتأثرت المخازن في الولايات المتحدة الأمريكية وانخفضت المحاصيل في أمريكا الجنوبية والعديد من الدول ذات الأهمية الزراعية وارتفعت التوقعات في زيادة الطلب على المواد الغذائية، فارتفعت أسعار القمح والسكر والأرز وغيرهم من المواد الأساسية الضرورية.
لقد أدت هذه الوضعية إلى تضاعف موازنات الدول الموجهة للإستيراد الغذائي سبيلا لسد الفجوة الغذائية ومواجهة وضع حذرت من عواقبه بورصات الغذاء العالمية والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
وبطبيعة الحال لم تكن موريتانيا بمنأى عن تأثير موجة الجفاف التي اجتاحت العالم، فبالإضافة لارتفاع الأسعار وامتصاص الواردات الغذائية لنسبة كبيرة من الميزانية العامة للدولة فقد تسببت الأزمة أيضا في خسائر كبيرة في الاقتصاد الريفي الذي تعتمد عليه أغلبية الموريتانيين، وقد زاد الخلط لدى الساسة في موريتانيا بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي من مضاعفات الأزمة وتأثيرها على المواطنين ، وبدلا من الالتحام في وجه تداعيات الأزمة سبيلا للحد من آثارها، فقد اعتمدت بعض القوى السياسية المحلية سياسة الاحتجاجات على أمل أن تشكل آثار الجفاف عاملا مساعدا يدعمها في مساعيها الرامية للإطاحة بالنظام القائم، والالتحاق بما آلت إليه بعض الدول العربية ،في حين بادرت الحكومة بتنفيذ مجموعة من الخطط والسياسات رأت أنها الوسيلة المثلى للتخفيف من وطأة الأزمة ومواكبة التحديات .
وعلى الرغم من أنني شخصيا أقدر كل الجهود التي بذلتها الحكومة للرفع من المستوى المعيشي للسكان ومساعدة المنمين والمزارعين في هذه السنة الصعبة إلا أنني سأظل أأكد على أنه ما لم تعط الأولوية لتنمية القطاع الريفي فإن جميع الإجراءات الأخرى لن تكون سوى نماذج من سياسات التـهدئة المؤقتة والموسمية التي اعتمدت خلال الخمسين سنة الماضية والتي لم تفلح في حماية مقدرات الدولة وطاقات الشعب .
إن شبح الخوف العام الذي خيم على أغلب الموريتانيين هذا العام يعيد إلى الأذهان أجواء الجفاف التي عانت منها البلاد في العقود الماضية والناجمة في الأصل وفي الأساس عن التقصير في إعطاء المكانة المناسبة للقطاع الريفي الذي تعيش عليه الغالبية العظمى من الموريتانيين.
إن هذا الخطأ الإستراتيجي الجسيم رافق ميلاد الدولة، وستظل تأثيراته ماثلة وخطيرة مالم يتم تبني إستراتيجية اقتصادية تعزز العلاقات التشابكية بين مختلف القطاعات الاقتصادية وفي مقدمتها القطاع الريفي، إستراتيجية تضمن ديمومة الموارد وتؤمن ظروف التنمية المتوازنة.
إن تركيزنا على القطاع الريفي لا يعني أبدا التقليل من العناية المعطاة لقطاعي المعادن والصيد وإنما يأتي في إطار ضرورة تبني رؤية تكاملية تدعم الإطار الاستراتيجي المؤسسي وتقضي على التشوه الحاصل في الهيكل الاقتصادي، لأن التخطيط الاستراتيجي للقطاع الريفي بأبعاده الاقتصادية والمجتمعية سيمكن فعلا من تصحيح الاختلالات الحاصلة في الناتج الوطني الإجمالي وسيحسن من مستوى الدخول ويحقق العدالة ويقلل من معدلات الفقر ويدعم الاستقرار ويعطي مرونة لتحمل الضربات التي قد تنجم عن حالات الجفاف والأزمات العالمية . وفي هذا الإطار أتصور أن اتخاذ قرارات تدعم عمليات قيام قطب اقتصادي متخصص لدعم منتجات الاقتصاد الريفي ستصحح مسار التنمية و تحد من المعوقات البنيوية وتهيئ المجال لمزيد من التكامل ومواجهة التحديات المحتملة التي قد تحدث بفعل الجفاف، ومن هذه الإجراءات أذكر على سبيل المثال لا الحصر :
1 ـ إنشاء شركة وطنية مكلفة بدعم الثروة الحيوانية وتنمية مشتقات الألبان واللحوم الوطنية، وإقامة مصانع للأعلاف في المناطق الرعوية, هذا الإجراء سيمكن من تعبئة واستغلال الموارد الهائلة المتوفرة في البلاد، كما سيساهم في امتصاص البطالة، وهنا أنبه إلى أن الاستمرار في عدم إعطاء الأولوية لقطاع رئيسي يستوعب قرابة ثلثي القوى العاملة الوطنية ويعيش على حسابه أغلب الموريتانيين ، يشكل خللا عميقا في أولويات التخطيط الصادق ، كما يكرس التشوه الذي عرفه الهيكل الاقتصادي خلال العقود الماضية .
2 ـ في إطار التكامل المطلوب والاسـتئـثار الموضوعي لأبناء الوطن الواحد، يجب أن يتم إنشاء صندوق لدعم الزراعة والمنتجات الحيوانية تكون له فروع في المناطق الرعوية ويقدم قروضا في الفترات الموسمية و يتم تمويل هذا الصندوق من خلال تخصيص نسبة من عائدات القطاع المعدني وقطاع الصيد البحري وعائدات البترول.
3 ـ على مستوى السياسة المالية يجب سن قوانين استثمارية تشجع إقامة منشآت زراعية وبنى تحتية تدفع في اتجاه تنفيذ برامج للاستصلاح الزراعي في المناطق الزراعية والرعوية ،كما يجب إقرار سياسة حمائية للصناعات الإنتاجية الوليدة واعتماد سياسة لدعم الصادرات .
4 ـ في مجال البيئة يجب إنشاء محميات كبرى تساعد على صيانة وتسيير الموارد الرعوية واعتماد سياسة حفر آبار مائية تراعي الحاجات الضرورية للمناطق الرعوية.
إن هذه الإجراءات بالإضافة إلى كونها ستخلق قطبا اقتصاديا تتفاعل من خلاله عناصر العرض والطلب وتنتعش بموجبه الدورة الاقتصادية الوطنية، فإنها ستمكن أيضا من الرفع من نسبة مساهمة القطاع الريفي في الناتج الوطني، وتزيد من مستوى الدخل القومي وسترفع من المستوى المعيشي وتثبيت السكان في مواطنهم الأصلية، كما ستحد من العجز في الميزان التجاري من خلال تضييق الفجوة الغذائية مما ينعكس إيجابا على وضع ميزان المدفوعات.
وبدون هذه الإجراءات ستظل الرهانات و شبح الجوع وآثار الجفاف يخيمان على البلد وستستمر موازنات الدولة في التضاعف سبيلا لاستيراد المواد الغذائية الضرورية ومواجهة غلاء الأسعار وبالتأكيد سيكون لذلك تداعيات على مستوى توسيع الفجوة الغذائية وتنامي العجز في ميزان المدفوعات واللجوء إلى مزيد من القروض الأجنبية لتلبية الحاجيات الضرورية .
أخيرا أشير إلى أن مؤشر الإمكانيات ( الموقع ، وحجم السكان ، وحجم وتنوع القدرات) يوضح إمكانية كبيرة لقيام تنمية مستقلة في هذا البلد قوامها الاعتماد على القدرات الذاتية للمجتمع ، كما أن مؤشر التغيرات الهيكلية يفيد أن اتخاذ إجراءات وتدابير مهمة لصالح القطاع الريفي في إطار إستراتيجية شمولية لجميع القطاعات كفيل بنمو الناتج القومي الإجمالي و بزيادة معدلات النمو في الدخل القومي وبالتالي إزاحة و احتواء كل الآثار التي قد تنجم عن الجفاف وتبعاته.
Filed under: موريتانيا Tagged: موريتانيا
No comments:
Post a Comment