Saturday, 1 September 2012

‬‏ أوراق مسافر بين المذرذرة ونواكشوط | #موريتانيا أخبار



الورقة الثانية.. ’أگراج’ المذرذرة


السبت 1 أيلول (سبتمبر) 2012










باب ولد حرم

على عكس المذرذريين ومدينتهم التي تسهر حتى ساعة متأخرة من اليل، تخْلد محطة النقل الخاصة بالمذرذرة في قلب العاصمة إلى النوم باكرا وتواصله حتى ما بعد ارتفاع الشمس غير عابئة بالحياة التي تدب في محيطها منذ الصباح الباكر..


حوالي الثامنة والنصف تكون أول سيارات النقل القادمة من المذرذرة وصولا تحاول جاهدة شق طريقها إلى وسط العاصمة متجنبة ملتقيات الطرق التي تعرف ازدحاما خانقا في هذه الفترة الصباحية.. مع دخولها إلى ’كبتال’ يستيقظ ’أگراج’ المذرذرة، وعلى وقع ترجل السائق منها تفتتح محطة النقل يوما جديدا يكرر نفسه منذ سنين..


بعد هنيهة تتلاحق السيارات واحدة تلو الأخرى.. يتجه كل ناقل إلى حيث اعتاد ركن سيارته، فالمحطة مقسمة إلى محميات يختص كل ناقل، أو مجموعة صغيرة من الناقلين، بإحداها وتعتبرها حكرا عليها لا يحق الآخرين الاقتراب منها..


يترجل الناقلون من سياراتهم ورؤوسهم لا تزال تحتفظ ببقية من نعاس.. يتبعهم مساعدوهم ’آبرانتيات’ الذين سرعان ما يشرعون في صناعة شاي لذيذ تتعالى الرغوة البيضاء من كؤوسه فيعبق المكان بنكهة النعناع والسجائر ليمتزجا مع رائحة الزيوت المنبعثة من محركات السيارات المنهكة وبقايا الندى الأطلسي المتساقط ليلا على مدينة انواكشوط.. خلطة ستؤثث المكان وتطغى عليه طيلة هذه الفترة الصباحية قبل أن تذوب وتتلاشى تحت وطأة الشمس وحركة مرتادي المكان..


تنجح الكأس الأولى في طرد بقايا النعاس المختبئ خلف الجفون، فتبدأ مجموعة الشباب الجالسة في حلقة خاصة بها حديثا يدشنه أحدهم بسؤال يفترِض أن تشكل الإجابة عليه أو محاولة التهرب منها مادة دسمة لكسر الصمت الصباحي المخيم على المكان.. “افلان انت ما ريناك البارح، ذلغابر فيه ذالزمن شنهو يعطين خيرو؟؟”


يفتح السؤال باب دردشة صباحية تتوسع وتتشعب، يجوب خلالها الناقلون شوارع المذرذرة وأزقّتها المظلمة، غورَهاونجدَها، وما جد فيها من أخبار وحكايات ومغامرات شبابية، ويعرّجون على أحداث مسلسل الجميلة ’ماري تشوي’ متحين على فقدها لبصرها، قبل أن يوجه أحدهم دفة الحديث نحو شاب التحق مؤخرا بالمهنة، ممازحا إياه مزاحا بطعم الإهانة والتشكيك في قدراته المهنية.. يذكره كيف استطاع تجاوزه قبل الوصول إلى تگند رغم انطلاقته متخلفا عنه بنصف ساعة.. يرد الناقل الجديد إنه لم يغادر المذرذرة مشاركا في سباق، بل ناقلا بسيارة لم يسدد بعد جميع أقساطها وأن من الجنون المغامرة بالدخول في سباق مع شخص لا يقيم لحياته ولا لحيوات المسافرين معه وزنا..


يواصل فتية آبرانتيات صناعة الشاي بخفة وانسيابية.. يصبون الكأس الثانية والثالثة والرابعة حتى يكمل من لحق متأخرا ثلاثية الشاي المقدسة..


مع الكأس الرابعة تصل آخر السيارات من المذرذرة، لاندكروزر يخبر شكلها عن زمن طويل من التهجير والتبكير وانعدام الصيانة.. يتمتم الشباب كلمات ساخرة عن شكلها وأزيزها: “انت شوف عنك ذي الكارثة من كيفنه دخلت نعوذ بالله” يهمس أحدهم لزميله الجالس بجنبه، فيجيب آخر بصوت أعلى: “علمني ملان عن افلان أشبه لو ايبدل وتّو ذي ابشاريت ويگعد في الصنگة” فيغرق الجميع في نوبة ضحك يصل صداها إلى أحد الناقلين الكبار الذي يحاول الاحتفاظ بزمالة فاترة معهم، فيغمغم “يلالي زاد يذاك ظرك من الطرب!!”


ترتفع الشمس وترتفع معها وتيرة الحركة في الشارع المحاذي للمحطة.. تتزايد أعداد سيارات التاكسي القادمة والمتجهة نحو ’كرفور المرصة’ الواقع على مرمى حجر..


في هذه اللحظات تستقبل المحطة أول روادها.. أحد التجار الذي قدم إلى انواكشوط منذ ثلاثة أيام في رحلة شهرية تعود أن يبتاع فيها بضاعته واليوم هو الأخير في تلك الرحلة .. يقطع التاجر الشارع بتؤدة وحذر.. يتجه مباشرة نحو أحد الناقلين الذي يرتبط معه بعلاقة متينة عززها عامل التقارب في السن وعناية خاصة يوليها هذا الناقل لزبنائه من قدامى التجار وساكني المذرذرة.. بعد تحية مقتضبة وحديث عن ما جد من أخبار عن التساقطات المطرية ووضعية قطعان الماشية وتقلبات أسعار علفها، يستفسر التاجر عن إمكانية نقل طن أو اثنين من السكر فيرد الناقل بالإيجاب، ليحدد له التاجر أين يجد البضاعة ويودع منصرفا باتجاه شارع ’الرزغ’..


رويدا رويدا يمتلأ المكان بالزوار والمرتادين.. باعة أفارقة متجولون يحملون ما خف من أدوات وألعاب، شباب وشابات قدموا لاستلام رسائل أرسلها ذووهم من المذرذرة وإرسال أغراض يحتاجها الأهل هناك..


فيما مضى كانت محطة النقل هذه تشكل ناديا مذرذريا بامتياز، يعرّج عليه الناس في ساعات الضحى سعيا وراء التقاط خبر أو استلام رسالة خطية من الأهل.. تغير نمط الحياة وحل الهاتف النقال محل الرسالة الخطية فقل زوار المحطة بشكل كبير.. رغم ذلك ظلت المحطة تحتفظ بطابعها الخاص، كل ما فيها ينضح بمذرذرية لا تخطئها العين.. هدوء الشيوخ ونزق الفتية الصغار من ’آبرانتيات’ وسعي الشباب للتنكيت على كل شيء، فبياض دراعة أحدهم قد يشكل بحد ذاته فرصة للتعليق والتندر.. “يلالي يذ امن ابياظ الدراعة واقع لفلان!!”..


ورغم انحسار دورها كملتقى لأبناء المذرذرة في السنين الأخيرة، استطاعت المحطة أن تبقى جزيرة وسط العاصمة لها من الخصوصيات ما يمنعها من الذوبان.. حتى اللغة تشي بمذرذريتها وقد يستغلق بعضها على الآخرين، مصطلحاتها منحوتة بعمق من الواقع المحلي لأهل المذرذرة.. وأغلب الناس، خاصة الصغار، هنا كما هم هناك لا أسماء لهم.. لا وجود لمحمد أو سيدي أو علي، لكل لقبه الخاص المستوحى من شكله أو شكل هندامه أو مشيته أو طريقته في الكلام أو حادثة وقعت له.. قد تتعثر مرة فيسمونك ’المتعيثر’، وقد تشكو من السغب في قيلولة يوم صيفي قائظ فيصبح اسمك ’العطشان’ أو تتذمر من القَرّ في صباح شتوي قارس فتصبح بعدها ’البردان’.. المهم أن تصاغ لك هوية جديدة رغم أنفك، أنت هنا كما يريدك الآخرون أن تكون، لا كما تريد أنت..


في هذا الوسط المذرذري الصرف يمضي النهار على عجل.. بين الفينة والأخرى يرن هاتف أحد الناقلين فيكون على الجانب الآخر زبون يحجز مقعدا أو اثنين ويؤكد على السائق في الحجز حتى لا ينساه..


يواصل الزوار التدفق.. البعض يحجز مقعدا للمغادرة.. يحمل البعض رسالة إلى ’انهكارة’ ولدى البعض الآخر مبلغ مالي يود إرساله للأهل في ’الدار البيضاء’.. والكل يعرف بالتحديد أي الناقلين يختار، فلكل قرية ناقلها المفضل الذي ألفها وألفته ولا تبغي عنه بديلا..


مع تآكل ساعات الضحى يكثف ’آبرانتيات’ والناقلون جهودهم في سباق مع الزمن لاقتناص الزبناء مستغلين كل إمكاناتهم التسويقية في جذب المسافرين وبضائعهم.. كل شخص يمر بالمحطة مسافر حتى تثبت برائته وكل طرد أوخنشة ينتظرها فراغ في إحدى السيارات على أحر من الجمر!!


ما بين العاشرة صباحا وحتى ما بعد انتصاف النهار تعرف المحطة ذروة نشاطها، لتخلد مع الزوال إلى قيلولة قصيرة يغتنمها البعض للذهاب إلى منزله في انواكشوط لاحتساء كاسات الشاي بعيدا عن الضوضاء التي تلف المكان واقتناص لحظات من حلقة اليوم من مسلسل ’ماري تشوي’ أو ’مراد على ندار’ وأخذ حمام قبل العودة للمحطة مع الظهر والاستعداد للانطلاق في رحلة العودة المسائية..


قبل صلاة الظهر يتضح للجميع حصيلة نشاطهم اليومي، من سيغادر ومن لم يسعفه حظه بالحصول على مسافرين وبضاعة كافية لتغطية تكاليف المحروقات التي بات ارتفاعها يأرق مضاجع الناقلين ويهدد مهنتهم بالركود، فيكون عليه الانتظار حتى يوم غد..


هنا يأتي الدور على ’ابرانتيات’ الذين قضوا النهار متسكعين يبحثون عن كل شيء وعن لاشيء ليقوموا بأهم دور يناط بهم، فيزموا الأمتعة في أحواض سيارات اللاندكروزر ويعلقوا ما خف منها في الشبكة المتأرجحة في مؤخرة السيارة..


مع اكتمال رص البضاعة بإحكام في أحواض سيارات اللاندكروزر وحضور زبناء سيارات المرسيدس تكون ساعة الصفر قد حلت وحانت لحظة مغادرة المحطة فما زال أمام الناقلين محطات أخرى: مسافرون ينتظرون في منازلهم وآخرون قرب كرفور المعرض، الدايات الثلاثة، أو محطة وقود أهل ابراهيم فال..


تشير الساعة إلى الثالثة والنصف.. يكون مسافر ينتظر بحرقة.. ألهبت حرارة النهار جسمه فتصبب العرق منه مدرارا.. هربًا من الشمس اللافحة يسند ظهره على بقالة تقع قرب إحدى محطات توتال في حي الرياض.. يستبطئ الناقلَ الذي من المفترض أن يقله فيلجأ لمهاتفته.. “بوي انت امنين، اثرك ما تيت ماشي اليوم؟؟” “عندك، جيتك، انراعي فيك” بجيب الناقل عبر الهاتف..


تمضي عشر دقائق، لتصبح عشرين وثلاثين.. يهم المسافر بإعادة مكالمة الناقل مرة أخرى، فإذا به أخيرا قد أوقف سيارته قرب فوهة محطة البنزين لشحن سيارته وبدأ في لملمة أوراق الألف والألفين المتناثرة في جيب دراعته..


“أيو اطلسن، اركب جان اليل”


ينفتح باب السيارة الخلفي عن امرأة ورجلين فينقبض كل منهما محاولين إفساح مكان له.. ينجح الراكب الجديد بصعوبة في التكدس جنب الثلاثي قدر ما يسمح بإغلاق باب السيارة من جديد..


بوي حانيني”


“انت ذاك اتگدم اشوي”


“مانّ متراظعين”


“احن على سفرٍ”


“الا اتكايسو، لين تتحرك الوتّ ادورو تتمونكو ان شاء الله”


يسدد السائق ثمن البنزين.. يمد يده لصرة من السكر أمامه فيدورها حول جمجمته ويدير المحرك..


تنطلق السيارة، فيبدأ كل مسافر بطريقته الخاصة بحثا مضنيا عن المتعة التي وعد بها السائق بعد الانطلاقة!!


يتبع


عودة للصفحة الرئيسية




مصدر




Filed under: موريتانيا Tagged: موريتانيا

No comments:

Post a Comment