ALKUNTY_DR@YAHOO.FR
الجمعة 14 أيلول (سبتمبر) 2012
| الدكتور/محمد إسحاق الكنتي/خاص “أقلام” |
رأينا من قبل أن علم المقاصد وضع، على هشاشة قواعده، ليعين المجتهد على استنباط الأحكام الشرعية للنوازل المستجدة، مما لم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة، فهو إذن منهج يعتمد القياس سبيلا لإلحاق نازلة بواقعة معلومة الحكم، بناء على اشتراكهما في العلة، التي يفترض أنها سبب الحكم الذي قرره الشارع للواقعة.
هشاشة المبنى هذه فرضت على الأصوليين تحديد مجال المقاصد بشكل دقيق، وربطها بالحدود الشرعية، وبذلك حاولوا إغلاق مجال العلم حتى لا يقرر كل أصولي مقاصد خاصة به يستنبط في ضوئها “أحكاما شرعية” لنوازله. ظل السور الأصولي صامدا ما صمدت الحدود الشرعية في وجه الحملات الخارجية، لكنه بدأ يتصدع حين بدأ “الذين من دونهم” الحفر في أساسات الحدود الشرعية بالتشكيك فيها.
بدأ ذلك بما سمي عصر النهضة (نهايات القرن التاسع عشر) حين واجه العالم الإسلامي، الخارج من عصر الانحطاط هجمة فكرية وعلمية مسيحية (يميل أغلب المثقفين المسلمين إلى استخدام الحضارة الغربية بدل الحضارة اليهودية المسيحية، والحضارة الشرقية بدل الحضارة الإسلامية. والواقع أن الحضارات لا تتحدد بالجهات؛ فقد انتشر الاسلام إلى الغرب، ونبعت الحضارة اليهودية المسيحية من الشرق…)، مثلت تحديا حضاريا للمسلمين، لم يكن بد من التعامل معه. اختارت بعض النخب المرتبطة بالثقافة المسيحية (عقديا، أو فكريا) الانخراط في المشروع الاستعماري فعملت على التمكين للثقافة المسيحية (أستخدم مسيحية حيث يستخدم آخرون غربية لاعتقادي أن العلمانية ليست سوى اجتهاد مسيحي، مثلما يحاول بعض المسلمين اليوم جعلها اجتهادا إسلاميا) في المجتمعات الإسلامية مسترشدة بالمثال التركي، بينما قررت نخب أخرى الوقوف في وجه المشروع الاستعماري داعية إلى نهضة جديدة للحضارة العربية الإسلامية…
انقسمت نخب النهضة الداعية إلى مواجهة المشروع الإستعماري إلى فئتين متمايزتين؛ رأت الأولى أن المشروع النهضوي لا يمكن أن ينجح إلا إذا قام على إحياء التراث الإسلامي الأصلي، مطهرا من تراكمات عصور الانحطاط. وهو ما يعني استئناف القول في القرآن والسنة الصحيحة، وسيرة السلف الصالح بصفتها البوصلة الهادية إلى حسن التعامل مع مستجدات العصر. مثل هذا التيار الحركة الوهابية في الحجاز، والمهدية في السودان، والسنوسية في شمال إفريقيا، مع اختلافات مهمة في التفاصيل. لكن لحمة هذا التيار تمثلت في أن نوازل العصر ينبغي أن ينظر إليها في ضوء مقاصد الشرع التي حددها الأصوليون في معزل عن تأثير الحضارة اليهودية المسيحية، وبذلك لم يخضعوا للتفوق المادي للحضارة اليهودية المسيحية، فلم يجعلوا طموحهم في التوافق معها، وإنما قرروا الاختلاف معها مع إمكانية وجود نقاط التقاء تحددها آليات انفتاح الحضارة العربية الإسلامية المستقلة، بدل محاولة إيجادها تحت تأثير الاعتراف للمشروع الحضاري اليهودي المسيحي بالتفوق…
جاءت الفئة الأخرى على النقيض. فقد اعترفت للمشروع الحضاري اليهودي المسيحي بالتفوق، فأصبحت جميع مبادراتها رهينة لهذا الاعتراف. وهكذا، سيبحث النهضويون “العقلانيون” (لا أحمل الصفة أي شحنة إيجابية)عن سبل للتوافق مع الحضارة اليهودية المسيحية، وبذلك سيأخذون الاتجاه المعاكس تماما للنهضويين “الأصوليين”(لا تحمل الصفة أي شحنة قدحية). سينطلق النهضويون العقلانيون من مسلمة أن المشروع النهضوي الإسلامي لا يمكن أن يقام مستقلا عن المشروع الحضاري اليهودي المسيحي المتفوق، لذلك سيتجهون إلى التراث العربي الإسلامي ينتقون منه العناصر الأكثر ملاءمة لتحقيق التوافق مع الحضارة المتفوقة. ولم يطل بهم البحث حتى عثروا على ما اعتقدوا أنه صلة الوصل بين الحضارات البشرية عموما؛ “العقل”. بذلك اتسع الشرخ بين الفئتين…
لم يعترف الأصوليون للحضارة اليهودية المسيحية بالتفوق، وهو ما حررهم، على المستوى النفسي، من الشعور بعقدة النقص، ولم يتبنوا التصور اليوناني للعقل، فلم يجدوا تناقضا بينه ( كما بني في الثقافة العربية الاسلامية قبل ورود الفكر اليوناني) وبين الوحي. لكن الفكر النهضوي الأصولي عرف انكماشا في معاقله، فلم يكتب له النصر إلا في الحجاز، بينما عرف الفكر النهضوي العقلاني (تنصرف الصفة إلى التصور اليوناني للعقل)، ممثلا في الأفغاني وعبده، بعض النجاح، غير أنه سيعرف “انتكاسة” أصولية مع رشيد رضا الذي سيقيم بعض الصلات مع الفكر الوهابي.
كان الأفغاني وتلميذه محمد عبده على رأس النهضويين العقلانيين، وكانوا على صلة وثيقة بالحضارة اليهودية المسيحية؛ فقد كانا عضوين في المحفل الماسوني البريطاني، ثم انتقلا منه إلى المحفل الفرنسي (راجع الأعمال الكاملة لمحمد عبده، تحقيق محمد عمارة)، وكان جوهر دعوتهما “أسلمة الحضارة اليهودية المسيحية”، بلغة عصرهما الذي تميز برفض اجتماعي عنيد للمشروع الاستعماري، وهو ما يترجم عنه اليوم بعلمنة الإسلام، في عصر لم يعد مسموحا فيه للمسلمين إعلان انتسابهم للإسلام الذي أصبح مرادفا للإرهاب، فتقاسما الأدوار. اهتم الأفغاني بالفكر السياسي فكان أشرس مدافع عن الديمقراطية الأثينية، بينما انشغل عبده بالجوانب الفكرية، فاستخدمه صديقه(المفوض البريطاني بلنت) لتمرير “إصلاحاته” التربوية، ودعا إلى قبول الفوائد المصرفية، وبث آراءه الاجتماعية في كتاب “تحرير المرأة”، لقاسم أمين. فقد حقق محمد عمارة نسبة بعض فصول ذلك الكتاب، مثل فصل الطلاق، وغيره، الذي يقول فيه محمد عبده “وبدهي أن في تعدد الزوجات احتقارا شديدا للمرأة.” (يقول محمد عمارة، في الأعمال الكاملة لمحمد عبده، هامش الصفحة 561، عن هذه العبارة: ” من فصل في كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين، وهو من الموضوعات التي حققنا نسبتها للأستاذ الإمام.”).
كان مقدرا للنهضويين العقلانيين الانتصار لولا أن التاريخ السياسي للمنطقة تطور في اتجاه أدخل لاعبين جدد على الساحة، ومن موقع القوة. اكتسح الفكر القومي (لم يكن بعيدا من المشروع الاستعماري، فقد نشأت نواة القوميين العرب في الجامعة الأمريكية في بيروت، وكان رواده من الأقليات المسيحية المعروفة بارتباطها بالقوى الاستعمارية والبعثات التبشيرية)، ذو الخلفية الاشتراكية نخبة الطبقة الوسطى المكونة من الأطر المهنية، وضباط الجيش، الذين ما لبثوا أن عرفوا طريقهم إلى السلطة عبر انقلابات ما لبثت أن أصبحت ثورات اشتراكية تقدمية، ترى في المشروع الإسلامي بمختلف مدارسه نكوصا إلى الماضي لا بد من محاربته، فغيبت الفروق بين المحمدين (محمد صلى الله عليه وسلم، محمد بن عبد الوهاب، ومحمد عبده)، فتراجعت شعبية المشروع النهضوي العقلاني لصالح المشروع النهضوي الأصولي.
ثم جاء الإسلام السياسي ليقلص فرص المشروع النهضوي العقلاني. أسس البنا حركة الاخوان المسلمين سنة 1928، في الاسماعيلية (لم تكن هي الأخرى بعيدة من الدوائر الإستعمارية، فقد تلقت عند تأسيسها تبرعا من شركة قناة السويس، أنظر رسائل البنا) في ظروف مواتية لانتشار النهضوية الأصولية؛ فقد بلغ تغريب النخب المصرية مداه، وكان رشيد رضى على رأس الداعين إلى مواجهة التغريب، وهو الذي مثل “تراجعا” إلى المواقع الأصولية العقدية، مقارنة بالأفغاني وعبده. أضف إلى ذلك التكوين الشخصي للأستاذ حسن البنا.(راجع رسائل حسن البنا). بنى حسن البنا حركة سياسية تدعو إلى إحياء المشروع الحضاري الإسلامي، مع الانفتاح على الحضارة اليهودية المسيحية في حدود ما تسمح به الأصول العقدية الإسلامية. لكن التطور السياسي في المنطقة، وعنف الصدام مع الأنظمة القومية ذات المرجعية الاشتراكية دفع بالإخوان المسلمين إلى مواقع راديكالية انتهت، مع سيد قطب، إلى رفض شامل لأي التقاء مع الحضارة اليهودية المسيحية، يضاف إلى ذلك التحالف التكتيكي بين الأنظمة ذات المرجعية الوهابية، وبين الإخوان المسلمين، بدافع العداء المشترك للأنظمة القومية…
لكن الإخوان ما لبثوا أن غادروا المواقع الأصولية، مدفوعين بعوامل متعددة، أهمها تراجع تحالفهم التكتيكي مع الأنظمة الوهابية، بعد تراجع خطر الفكر القومي على تلك الأنظمة (حقبة السادات)، فقررت الاستثمار في التيار السلفي الأقرب إليها عقديا وفكريا. وبذلك بدأ الاخوان سيرهم الحثيث نحو مواقع النهضوية العقلانية…
على الضفة الأخرى تطور التيار النهضوي العقلاني في اتجاه الالتقاء مع الحضارة اليهودية المسيحية، فتم تأويل الإسلام ليصبح يساريا، أو تقدميا. وشجعت الأنظمة القومية هذا الإتجاه لتضرب به الأصولية الإسلامية. وجد هذا التيار، ممثلا باليسار الإسلامي في مصر، والإسلاميين التقدميين في تونس، ضالته في المقاصد. يقول راشد الغنوشي:<<…إلا أن مجموعة اليسار الإسلامي مضت إلى أبعد من ذلك في النقد، إذ اقتربت، إلى حد التطابق، في محصلة طرحها الفكري المقاصدي من الموقف العلماني…>> (الغنوشي: أطوار من نشأة الحركة الإسلامية في تونس).
هكذا، تم توظيف المقاصد لإعادة تأويل الإسلام ليتوافق مع الحضارة اليهودية المسيحية. تم ذلك مع رواد النهضة العقلانية، فقد كان محمد عبده يوصي طلابه بدراسة كتاب الموافقات للشاطبي والإفادة منه، كما يقول محقق الكتاب عبد الله دراز (الموافقات، تحقيق عبد الله دراز، ص:12). في هذا السياق غاب المبحث العقدي، الذي قضى النبي صلى الله عليه وسلم الجزء الأكبر من دعوته (13 في مكة) لترسيخه، فأصبح الإسلام أيديولوجيا دنيوية تنافس الماركسية والليبرالية، فتقلصت مساحة العقدي، لتتلاشى لاحقا، في مباحث النهضوية العقلانية، وانصب الاهتمام على كيفية “الاقتباس”(خير الدين التونسي) من الحضارة اليهودية المسيحية، وأصبح السؤال المركزي هو “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”، والتمست الاجابة عليه في إعادة تأويل الإسلام، عن طريق قراءة عقلانية، ليتطابق، أو يتوافق على الأقل، مع العلم والمدنية.
كان الأفغاني وعبده مشغولين بالبرهنة على أن الإسلام لا يناقض العلم والمدنية، فتصدى الأفغاني للرد على الداروينية، (رسالة الرد على الدهريين) التي كانت تمثل أهم النظريات”العلمية” في زمانه، والواقع أنه كان يجادل الداروينية الاجتماعية. ودخل محمد عبده في مناظرة مع فرح أنطون حول الإسلام والمدنية (ترجمت laïcité وقتها بالمدنية، وهي الترجمة التي يستعيدها الإخوان اليوم عند حديثهم عن الدولة المدنية)، وتصدى للرد على “هانوتو”، وزير خارجية فرنسا حول نفس الموضوع. وبذلك فقدت النهضوية العقلانية استقلالية إشكالاتها حين سلَّمت بأن الإسلام قادر على التوافق مع العلم والمدنية ( أستخدم المدنية بمعنى العلمانية) كما نجما في الحضارة اليهودية المسيحية التي استبعدت الجانب العقدي في الأيديولوجيتين السائدتين فيها (الليبرالية والماركسية)، فكانت النهضوية العقلانية تحشد البراهين من التراث الإسلامي، على صحة أطروحتها، ومثَّل العثور على موافقات الشاطبي كشفا مبينا، يسمح للنهضوية العقلانية بتأصيل مشروعها في التراث الفقهي الإسلام خاصة أن الشاطبي يقول بصريح العبارة “إن الشريعة وضعت لمصلحة العباد في العاجل والآجل معا…”
استخدمت الجملة لتبرير تغليب المصالح الدنيوية على الأصول العقدية، وأسندت مهمة تحديد المصالح إلى العقول الفردية، فغدت بذلك مصدرا للتشريع. فإذا كانت المصالح هي مقاصد الشريعة، والعقل الفردي قادر على تعيين تلك المصالح، فهو إذن أهل لأن يكون مصدرا للتشريع. لكن ذلك يتطلب إعادة فتح باب الاجتهاد، وهو ما نادى به الأفغاني وعبده، وعملا لأجله بمثابرة وإخلاص. غير أنه من الواجب إنصاف الرجلين؛ فلم يكونا يتآمران على الإسلام، كما يتهمهما البعض اليوم، وإنما فرضت عليهما إشكالية لم يكونا قادرين على رفضها وطرح إشكالية بديل عنها بسبب التردي الاجتماعي والثقافي في المجتمعات الإسلامية، فكان لابد لهما من اتخاذ موقف دفاعي ينتقيان فيه الأسلحة الأكثر نجاعة في مواجهة الخصم، فكان العلم والمدنية، ساعتها، السلاح الأكثر فتكا.
في هذا المناخ الفكري، سيتصدى عالم جليل، ونهضوي متحمس لاستئناف القول في علم المقاصد، معتمدا على موافقات الشاطبي، ومتجاوزا لها في اتجاه مقاصد أكثر توافقا مع العلم والمدنية.. الفطرة، والسماحة، والحرية، والحق. وبذلك فتح محمد الطاهر بن عاشور باب الخلاف في المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية؛ خلاف أدى إلى حرف المقاصد في اتجاه علمنة الإسلام…
(يتبع، إن شاء الله).
دكتور/محمد إسحاق الكنتي
ALKUNTY_DR@YAHOO.FR
Filed under: موريتانيا Tagged: موريتانيا
No comments:
Post a Comment