تصنف المدن التاريخية الأربع في بلادنا ضمن المدن الأثرية عالميا، وهم: شنقيط، وادان، تيشيت، ولاتة، وقد احتفظت هذه المدن بإشعاع خافت من الحياة رغم الإهمال والنسيان، أما غيرهم فقد لفظ أنفاسه في مجاهل الصحراء. إن هذه المدن قد ساهمت في تشكيل مشهد من تاريخنا الغابر فكان لها شأن، ذلك الشأن الذي تحدث عنه المؤرخون والرحالة، لكن الزمن كفيل بابتلاع ذلك الإشعاع وطمس معالمه؛ لترتمي تلك الحواضر في قعر سحيق من النسيان! وبإمكان المتطلع على تاريخنا منذ دخول الإسلام، من خلال حفر الآبار 116هـ أن يفرق بين نوعين من المدن، تشكلت على مرحلتين:
المرحلة الأولى ما بين 116هـ إلى 450هـ وكان طابع هذه المدن طابع سياسي بازدواجية دينية وتجارية، حيث تشكلت هذه المدن استجابة طبيعية لانتعاش الطرق التجارية، وتشكيل مجتمع إسلامي جديد، ومن أهم هذه المدن: “أودغست” التي تأسست 140هـ أسستها مجموعة صنهاجة خلال حلفها الأول بقيادة الزعيم اللمتوني ” تلاككين” ويليها في الزمن تأسيس مدينة ” أبير” التي تأسست 160 هـ أسستها مجموعة قادمة من مدينة تلمسان الجزائرية، وهي التي تبعد 3 كلم من مدينة ” شنقيط ” الحالية، ويعتقد أن مؤسسي أبير هم الذين أسسوا مدينة شنقيط بعد ذلك بعدة قرون.
أما المدينة التالية فهي مدينة” ازوكي” التي تأسست حدود 450هـ وهي تبعد 16 كلم من مدينة أطار الحالية، وقد أسسها الزعيم اللمتوني أبوبكر بن عمر محددا بها رسم ملامح دولته في ناحيتها الجنوبية، مصطحبا معه الإمام الحضرمي قاضي المدينة، وعبد الله الأموي شيخ مجلسها العلمي.
أما الطور الثاني من المدن، فكانت مدن ثقافية تأسست بعد أفول دولة المرابطين، ودخول المنطقة في فترة غامضة من تاريخها، بسبب تشرذم الكيانات، وغياب سلطة مركزية، وتزامن ذلك مع قيام دولة الموحدين بالمغرب في بحر القرن الهجري السادس، ونزوح بعض الفقهاء من حواضر المغرب الأقصى من علماء المالكية الذين كانوا يناصرون الدولة المرابطية في ناحيتها الشمالية، أمثال تلامذة القاضي عياض؛ مما نتج عنه صياغة جديدة لتشكل المشهد الثقافي والديني بالمنطقة، فأفرز ذلك الواقع تأسيس كيانات بشكل حواضر ثقافية التي اعتبرها الخليل النحوي بقوله: ” الحواضر مهد المحاضر” كانت هذه المدن هي : مدينة “شنقيط” التي تأسست في القرن السادس الهجري، والتي ازدهرت ثقافيا حتى تسمى القطر كله بإسمها، وكذلك مدينة ” تينيكي” تبعد20 كلم من مدينة وادان والتي تأسست هي الأخرى في القرن السادس الهجري، والتي قيل عنها: ” أكثر بقاع الدنيا آنذاك علما مصر وتينيكي”
وفي القرن نفسه تأسست تشيت وهي التي قيل أن بها من مخطوطات ما لا تدانيها فيه أي مدينة أخرى، أما وادان فإن تأسيسها كان معاصرا أيضا لمدينة تشيت في القرن نفسه، وقد سميت بهذا الاسم لأن بها وادان: أحدهما من التمر والآخر من العلم، وقال عنها العلامة ولد اطوير الجنة: ” أن أربعين دارا متتالية بهذه المدينة في كل منها عالم ضليع”.
أما مدينة ولاتة فكانت حاضرة العلم والثقافة، وذلك ما سجله ابن بطوطة في رحلته في القرن الثامن للهجرة، مع أنه سجل علامات الشيخوخة التي بدأت تغزو معالمها.
تلك الشيخوخة والتراجع اللذان اكتملت عناصرهما في القرن الهجري العاشر عندما تحولت التجارة إلى الشواطئ، وبدأ الإطار الثقافي يتبدل ليعرف تاريخنا المعرفي طوره البدوي، من مرحلة القرن11 والتي كانت مرحلة التحولات إلى مرحلة القرون الهجرية 12-13-14 هـ.
ومن ذلك الحين ومدننا الثقافية تصارع البقاء، فلفظ بعضها أنفاسه الأخيرة في بحر القرن العاشر مثل ” تينيكي” وبقيت المدن الأربعة الأخرى تقاوم النسيان والإهمال، رغم ما تختزنه من مكنونات التراث، ونفائس الآثار والمخطوطات.
هذا بالنسبة للمدن الثقافية التي تأسست في الطور الثاني من تشكل المشهد الحضاري للبلد، أما مدن المرحلة الأولى: أودغست، أزوكي، أبير،فإنها اختفت مخلفة شخوصا متناثرة في رمال الصحراء تحكي بصمت وحزن عن تجربة الأجداد، فرغم ما سجله البكري عن أودغست وإشعاعها الثقافي والديني خلال القرون الهجرية الأولى، حين قال: ” إنها مدينة كبيرة آهلة…بها جامع ومساجد كثيرة آهلة، في جميعها المعلمون للقرآن”.
هكذا ظلت هذه الحالة بسلطتها تهيمن على مدننا الثقافية، إلى أن اهتمت وزارة الثقافة برعاية الرئيس محمد ولد عبد العزيز ابتداءا من شباط 2011 أن تزيح ستار النسيان، وتزيل غبار القرون وتراكمات السنين عن هذه المدن، ضمن لفتة جديرة بالتثمين، ليس تثمين السياسيين، الذين يصفقون كيفما شاءت لهم أقدار التوجهات والمصالح الآنية، وإنما تثمين منبعه التاريخ الوطني، ومشاعره صدى للحظات مضيئة من تاريخ هذه المدن، التي كانت في عفويتها الصحراوية النواة الأولى لهويتنا الثقافية والحضارية!.
فالإحياء وإعادة الاعتبار لهذه المدن وترسيخه تقليدا سنويا بحضور رئيس الجمهورية بنفسه في ما أصبح يعرف ب ” مهرجان المدن القديمة” كأكبر تظاهرة وطنية؛ إنجاز يستحق الإشادة الصادقة والعفوية كما كانت سمات أهل هذه الحواضر الأولى في وجدان ذاكرتنا التاريخية.
Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا
No comments:
Post a Comment