ودعت موريتانيا أمس أحد رجالاتها الذين أفنو سنين عديده في خدمتها وضحو بأنفسهم وأموالهم وبكلما يملكون من أجلها, في الحرب كانوا في المقدمة وفي السلم كانوا في المقدمة أيضا ..
محمد محمود ولد الديه إسم ما سمعه أحد يعرفه إلا قال : ” وخيرت” أي : نعم الرجل , ولعمري إنه لكذلك , وارت موريتانيا أمس جثمانه الطاهر ومعه وارت كثيرا من معانى الشجاعة والصدق والإخلاص والتفاني فى العمل, وحجم المصلين عليه في مسجد ابن عباس والمعزين فيه يشير إلى بعض من مكانة الفقيد , موريتانيا كلها , بيضا وسودا عربا وأفارقة موالاة ومعارضة محاورة وغير محاورة أشخاص وجماعات , عسكريون ومدنيون رأساء أحزاب وزعماء قبائل قادة موريتانيا الحاليون والسابقون نقابيون وأشخاص عاديون نساء ورجال , شيوخ وشباب , إذا موريتانيا كلها أتت معزية وكانت الكلمة التى ترددت كثيرا : ” لم نأت اليوم لنعزيكم بقدرما نعزي أنفسنا ونعزي الوطن فالفقيد فقيدنا جميعا , فقيد الوطن ” .
اجتمع ولد الديه يوما بمستشاريه عندما كان وزيرا للصحة وسألهم هل من الممكن أن ننشأ قسما بالعربية في المدرسة الوطنية للصحة ونُعرّب قطاع الصحة كما هو موجود في القانون ؟ فقالوا جميعا : ” لا يمكن إنه أمر مستحيل ” فقال لهم هو: ” قلت أنه سيكون” . يقول أحد الأطباء الحاضرين للإجتماع : أبسط ردة فعل على هذا القرار تصورناها هي أن يتم تجريد الرجل من كل مهامه وممتكاله إن نجى بجسده أصلا , ولكن ولد الديه كان يعى مايقول فأمر كاتبه الخاص بكتابة القرار وأمره أن يحتفظ به إلى ان يبدأ اجتماع مجلس الوزراء فيسلمه له دون أن يمر بالأمانة العامة للحكومة خشية أي جدل حوله قبل اتخاذ المرسوم الوزاري وفعل الكاتب ما طلب منه ولما بدأ الاجتماع سلمه الكاتب القرار فعرضه على مجلس الوزراء وصدر مرسوم بشأنه فلا أحد يمكنه الإعتراض على قرار اتخذه ولد الديه ,,وعندما قام الأطباء المعارضين للعربية بإضراب عام قام باكتتاب جدد وابتعث بعثات خارجية للدراسة ونجح القرار فلولاه ما وجدنا اليوم طبيبا ولا صيدلانيا ولا حتى موظفا بقطاع الصحة يتكلم العربية ولكان على غالبية المواطنين اليوم البحث عن مترجم إذا ما أرادوا التوجه إلى مرفأ صحي كما زار مرة المستشفى الوطني فوجد مسؤول المستشفى ومعه رأساء أقسام بالمستشفى يلعبون الورق ( مرياس) فقام بتحويلهم إلى مناطق نائية بعيدة عقابا لهم فكان الموظفون بعد ذلك يحرصون على عملهم خشية أن يلحقهم مالحق زملائهم وكان هو نفسه نموذا للموظف المخلص في عمله و أول الحاضرين لعمله كعادته في كل حياته.
عُيّن ولد الديه على ميناء الصداقة وكان الميناء أقرب إلى مشروع من كونه ميناءا حقيقيا وتركه وهو من أحسن الموانئ في المنطقة وقبل ذلك عين على الوظيفة العمومية وكان من قراراته أنذاك أن عادل شهادة المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية بشهادة الجامعة وأصبحت شهادته معترفا بها تماما كشهادة جامعية , فما عين ولد الديه على مؤسسة إلا ترك بصمته فيها ومن على دراية بتاريخ الرجل يدرك ذلك جيدا .
أُ’بتعث ولد الديه مرة للقاء الملك الحسن الثاني فقام الملك ازدراء بموريتانيا وقال اتركوا الوفد الموريتاني إلى المساء سألتقيهم ليلا ولما أبلغوا ولد الديه أن اللقاء سيكون ليلا قال : قولوا للحسن أنى لا أعقد الاجتماعات ليلا وإنما اعقدها في وضح النهار فقط فتعجب الملك من قوته وثقته بنفسه وغادر الوفد الموريتاني مرفوع الرأس.
قوة الرجل وتفانيه في عمله وخبرته في الإدارة إضافة إلى تاريخه العسكري المشرف جعل الرئيس الموريتاني الأسبق ولد الطائع يحسب له ألف حساب فلما وقع خلاف بين ولد الديه وبيبى سانبير الذي تسمى بجبريل ولد عبد الله حول إدارة ملف من الملفات الوطنية وانحاز ولد الطائع لجبريل ذهب ولد الديه مغاضبا إلى قريته أفام لخذيرات – سبعين كلمترا شرق كيفة عاصمة لعصابة – وظل ولد الطائع يبحث عن بديل من أهل المنطقة لكنه كان كل ما أتى لمجموعة قالت له : ول وجهك شطر ولد الديه , طريقنا الوحيدة تمر عبره فمكان منه ولدهائه السياسي وحرصه على نظامه إلا أن عمل على إرضاء ولد في قريته التى تبعد عن العاصمة 670 كلم وهو ما تم فعلا لكن ولد الطائع ولإدراكه بقوة الراحل وعلاقاته الواسعة والطيبة بالمدنيين والعسكريين فضل أن يعطيه مؤسسة بعيدة عن إدارة الشأن العام حفاظا على كرسيه – مع أن المرحوم لم يكن راغبا في الكرسي – فأعطاه إدارة ميناء الصداقة ولم يكن يستطيع – أي ولد الطائع – وهو رئيس الدولة أن يتدخل له في إدارة تلك المؤسسة وحقق بها ما حقق مما ذكرنا سابقا قبل أن يعيده لإدارة مؤسسة الدرك الوطني بعيد انقلاب صالح ولد حننا وليشرف على التحقيق مع قادة الفرسان وكان ولد الطائع يريد أن يوجه ضربة قوية لولد حننا ومجموعته في ثوب قبلي دون أن يكون ذلك ظاهرا لكن ولد الديه شكل لجنة للتحقيق مع فرسان التغيير وكان من ضمنهم مقرب اجتماعيا من ولد حننا وآخر من ول الطائع إضافة لثالث مقرب منه هو وقال لا يمكن لأحد منهم أن يظلم لأن جميع الأطراف ممثلة فغضب ولد الطائع فلما سؤل ولد الديه عن ذلك قال : ” النظام سيزول يوما ما والقبائل باقية ولن نخلق خلافات لقبائل علاقتها مستمرة , يفرضها التاريخ والجغرافيا من أجل نظام حتما سيزول يوما ما” وقيل أن ذلك هو سبب منعه من رتبة جنرال بعد ما كان قاب قوسين أو أدنى منها فهو يستحقها بجدارة بل يستحق أكثر منها بكثير.
على المستوى الشخصي عُرف الراحل بالصدق والكرم وكان يكره الكذب والبخل فكانتا أكثر صفتين يكرههما وعندما يكتشفها في شخص يتركه جانبا ,كما عرف ببياض السريرة لا يحمل حقدا لأحد يختلف مع الشخص اليوم وربما سبه ذلك الشخص لكنه ينسى كل ذلك في اليوم الموالي وتلك معادن من معادن الرجال قل وجودها اليوم .
عرف الراحل أيضا بالإلتزام بالوعود والمواثيق وكان من أكثر الناس إلتزاما بالوقت وأكثرهم تواضعا , أتيته يوم سفره للعلاج وكان متكئا وقد أثقل عليه المرض فلما رآنى هم بأن يقف لي وأنا في سن إبنه لولا أن من حوله منعوه فياله من تواضع
لا أذكر أنى زرت مريضا للفقيد به علاقة أو حضرت جنازة إلا وجدته أمامي أو ذكر لي أنه أتاها سواءا كان الوقت الثانية ظهرا أو الثالثة فجرا وقل من يفعل ذلك ممن هم في منزلته كما كان بيته كما مكتبه مفتوحا أمام الجميع فحتى “ابروتوكلات” العسكر لم يلتزم بها فظل بيته مفتوحا أمام الجميع.
ولإن كان طبعي منعنى من أقول ذلك في حياته فلا أفضل أن أمتدح شخصا في وجهه حتى ولو كنت أحب وأجل ذلك الشخص وأقدره كما هو حالي مع المرحوم – رغم أنى قد أكون اختلفت معه في وجهات النظر حول بعض الأمور العامة كما يختلف الشباب عادة مع منهم أكبر منهم سنا – فإن واجبى الديني والإخلاقي والوطني يحتم اليوم علي أن أقوله , ومهما ذكرت من محامد الراحل فلن أفيه حقه ولا أزكى على الله أحدا وقد أصبح اليوم في جوار رب كريم رحيم وهو الوحيد القادر على مجازاته خير الجزاء.
رحل ولد الديه وقد أبكى رحيله الكثرين وسيتعب من يأتون بعده و ربما من أبلغ ما عبر به في هذا الخصوص هو ما عبر به ابنه حين قال لبعض المعزين : ” والله إن وفاة محمد محمود لأمر ثقيل لكن الأثقل منه هو التركة التى ترك والمسوؤلية التى بقيت على أعناقنا فما حققة من سمعة طيبة وتضحية في سبيل الوطن وعلاقات جيدة مع الجميع هو حمل ثقيل ” .
فاللهم أسكنه فسيح جناتك وارحم السلف وبارك في الخلف ولا نقول إلا ما يرضى ربنا إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا محمد محمود لمحزونون , إنا لله وإنا لله إليه راجعون , لله ما أخذ وله ما أبقى وكل شيء عنده بمقدار ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم .
Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا
No comments:
Post a Comment