في 24 يونيو 2012 طوي المصريون صفحة انتخابات ساخنة، وغير مسبوقة في تاريخهم، مكنتهم للمرة الأولي عبر آلاف السنين بدء من ( مينا المؤسس) وحتى (مبارك المخلوع)، من اختيار حاكمهم بأنفسهم، ليقع الاختيار علي الدكتور محمد مرسي رئيسا لمصر.
ولاشك أن المصاعب والعقبات الماضية لم تكن سهلة ,إلا أن الرهان الأصعب هو الخيارات القادمة التي سيكون لها ما بعدها بالنسبة للدكتور الرئيس , ولحركته الإخوان المسلمين ممثلة في حزب الحرية والعدالة , فبقدر ما سيتعامل مع الملفات الحالية بحنكه بقدر ما سيوفق هو وحركته مستقبلا في كسب ثقة , ورضا الشعب المصري , وبالتالي ترجمة التجربة السابقة, والطرح التنظيري, إلي واقع ملموس يربط الأقوال بالأفعال , بعيدا عن الدعاية الحزبية, فتلك مرحلة ولت, لم تعد مقبولة في جو التنافس السياسي الحزبي المفتوح ,وليوفق الرئيس الجديد في مهمته, عليه مواجهة جملة من التحديات منها:
أولا: سيكون من الضروري بل من أولوية الأولويات , بناء جسور الثقة بين السلطة الجديدة, وبين الشعب المصري من جهة , وبين فئات الشعب نفسها من جهة أخري , ذلك أن المراقب للانتخابات يلاحظ كم الخوف الهائل, وعدم الثقة المتجذر داخل المجتمع المصري , وما نتج عن ذلك من استقطاب حاد , تبين جليا لكل ذي بصيرة من خلال النتيجة النهائية للانتخابات , والتي لم تكن كاسحة , ولا حاسمة , في نتيجتها لأي طرف, بل كانت جد متقاربة ,وبقراءة بسيطة للنتيجة يمكن الخروج بالتالي :
صوت ما يقارب 8 ملايين ناخب مصري (بعد خصم أصوات الجولة الأولي والتي تمثل الحجم الحقيقي لقاعدة الناخبين من حركة الإخوان المسلمين , وهي قاعدة ملتزمة , ومنضبطة حزبيا , ولا يتصور تخلف أي فرد منها عن التصويت لمرشح الحركة في الجولة الأولي) لصالح الدكتور محمد مرسي ,خوفا من نجاح الفريق شفيق , لما يمثله شفيق حسب هؤلاء من مثالب وعيوب ومخاطر علي مستقبل البلاد , وليس بالضرورة حبا, أو شغفا بمشروع الإخوان متمثلا في الدكتور محمد مرسي , وإنما لكونه أقرب لمشروع الثورة ,ويمثل أخف الضررين , ولو قيض ربما لهم خيار ثالث لولوا شطره ,أما والخيار فقط بين مرسي وشفيق , فلا مناص لهؤلاء من التصويت للدكتور محمد مرسي .
وفي الطرف الآخر صوت حوالي 7 ملايين ناخب مصري(بعد خصم أصوات الجولة الأولي والتي تمثل الحجم الحقيقي لناخبي شفيق والنظام السابق والمجلس العسكري) لصالح الفريق شفيق خوفا من ما يمثله مشروع الإخوان متمثلا في الدكتور محمد مرسي علي مستقبل البلد ومصالحه حسب هؤلاء , لاحبا وقناعة بمشروع شفيق بالضرورة, ولكن مادام الخيار فقط محصورا بين مرسي وشفيق فهم كذلك لايرون هامشا للمناورة في ظل ثنائية المرشحين , وعليه فشفيق بالنسبة لهم هو الخيار دفعا لمشروع الإخوان المسلمين .
إذن فإذا ما أراد الرئيس محمد مرسي ومن وراءه حزب الحرية والعدالة كسب المستقبل فلا مجال أمامهم سوي العمل علي بناء ومد جسور الثقة من أجل كسب هذه الملايين الحائرة والخائفة (المقترعة له علي مضض,والمقترعة ضده علي كره) وهي الكفيلة المرجحة في أي انتخابات قادمة , والقضاء علي حالة الخوف والشك المتجذرة داخل المجتمع تجاه كل ماهو سياسي , وقد عملت الدولة علي تجذيرالريبة والخوف وتغذيته , طيلة العقود الأخيرة , مستفيدة من عوامل الاحتقان والانقسام , في تفريق وتشتيت الكتل الوازنة داخل المجتمع المصري .
ثانيا : التعامل بحنكة مع المؤسسة العسكرية , ذلك أنه لا يتصور عاقل أن ينسحب العسكر المصري من السياسية بهذه البساطة التي يروج لها البعض , بل لابد من رئيس يمتلك مشرط الجراح , وحكمة لقمان , وإرادة لإسكندر ,فللمؤسسة العسكرية المصرية مصالحها الضاربة داخل الدولة منذ 1952 , فإذا ما علمنا أن مابين 8% إلي 40% من إجمالي الدخل القومي المصري يسيطر عليها الجيش , من خلال مؤسساته , ومصالحه , ومصانعه , المنتشرة في مختلف مفاصل الدولة , وقطاعات الاقتصاد المصري , ويرأس ضباط متقاعدون أهم ثلاث قطاعات تنموية في الدولة وهي الزراعة , والتوسع الحضري , والسياحة , بل إن الجيش عرض في كثير من الأحيان علي وزارة المالية قروضا خلال السنة الماضية لمواجهة المصاعب , ويرفض الجيش أي تدخل من الدولة في مشاريعه , أو أصوله المالية ,ففي تصريح ، لمساعد وزير الدفاع للشؤون المالية اللواء محمود نصر في مؤتمر صحفي بالقاهرة العام الماضي قال:
إن الجيش لن يسلم أبدا هذه المشروعات لأي سلطة أخرى مهما كانت ، وأضاف أن هذه المشروعات ليست من الأصول التي تمتلكها الدولة وإنما ( إيرادات من عرق وزارة الدفاع والمشاريع التابعة لها) كما للجيش بيروقراطيته المنتشرة داخل الأجهزة الإدارية للدولة المصرية ,وعليه فسيكون امام الرئيس المنتخب محمد مرسي مسارات مختلفة للتعامل مع المؤسسة العسكرية , قد يكون السيناريو التركي حيث تمكن اسلاميو تركيا من تقليص دور الجيش بشكل ذكي وتدريجي هو سقف مطامحه , في حين سيكون السيناريو الباكستاني هو سقف مطامح المؤسسة العسكرية المصرية , حيث تمكن الجيش الباكستاني من إفراغ التجربة الديمقراطية من الكثير من فاعليتها بحيث تحولت الحكومات المدنية إلي أدوات خادمة وطيعة في يد الجيش الباكستاني.
ومابين المسار التركي والمسار الباكستاني خيارات كثيرة ليس من ضمنها خيار إلغاء طرف للآخر لخطورة وقوة الأوراق لدي كل من مؤسسة الرئاسة (الشرعية الشعبية) والمؤسسة العسكرية (الجيش ) بحيث سيتفق الرئيس محمد مرسي والمؤسسة العسكرية المصرية علي مخرج مشرف يضمن مصالح الطرفين , عندها فقط سنشهد انفراجا في الأزمة الحالية المتمثلة في الإعلان الدستوري المكمل , وسنشهد انسيابية في مسار الحياة السياسية اليومي .
ثالثا : من التهم التي دأب خصوم الإخوان عليها هي وصفهم للحركة وأتباعها ,بالإقصاء للمخالفين , وبنهج الانتقام من الخصوم حالما ما تتاح الفرصة لذلك , وهو ما يرتعد منه الكثير من خصومهم اليوم في مصر خوفا و فرقا , ولقد استغل خصومهم في الحملة الأخيرة هذه الحجة المفزعة للتنفير وكسب المزيد من الأصوات , ولقد آتت أكلها ,خصوصا لدي الاقباط , والرئيس الجديد مطالب بالابتعاد التام عن الحركة والخطابات الحزبية الضيقة بحيث يكون رئيسا مقنعا لكل المصريين بمختلف توجهاتهم , و معتقداتهم الدينية والسياسية , والوقوف بمسافة واحدة من كل الأطراف بدون إقصاء أو تهميش أو انتقام , , كمرسي الرئيس لا مرسي المبايع , كمرسي الرئيس لا كمرسي الإخواني , ولتحقيق ذلك سيكون علي الرئيس المصري الجديد تشكيل حكومة ائتلافية وطنية تضم مختلف التشكيلات السياسية الوطنية المصرية ,وبكفاءات عالية قادرة علي تلبية تطلعات الناخبين المصريين. وتتجاوز ذلك إلى علاقاتها بالعالم ,والقوى الدولية ، ومدى قدرة الرئيس وفريق عمله على التعامل السياسي مع الملفات الساخنة في المنطقة بما فيها إسرائيل والملف الفلسطيني.
رابعا : يواجه الرئيس مرسي مصاعب جمة فيما يتعلق بالشق الاقتصادي , لبلد وصل حجم عجز الموازنة العامة فيه حوالي( 144) مليار جنيه حسب آخر الاحصائيات ,مع تراجع احتياطات النقد الاجنبي الرسمية وغير الرسمية إلي ( 28) مليار دولار ,في حين وصل إجمالي الدين العام المحلي إلي (196 مليار دولار) بالطبع في وضعية كهذه لن يقوم الرئيس محمد مرسي باستعادة دولة مبارك الاقتصادية بكل مساوئها ,بل يتوجب عليه القيام ببعض الخطوات السريعة كالحد من السياسات الضريبية التي ظهر أنها تنحاز بصورة كبيرة لطبقة رجال الأعمال ، على حساب باقي الطبقات ، وهي سياسة الحزب الوطني السابق التي أفرزت طبقة رجال أعمال تمتلك وتهيمن علي معظم الثروة , وسيكون عليه التركيز علي الاستثمار الإنتاجي ، من خلال مشروعات ذات كثافات عمالية كبيرة ، في وقت يبتعد فيه عن الاستثمار في مجال البورصة والسندات والأسهم المالية ، وسيكون عليه منح الأولوية لشركات الاستهلاك السريع , والغذاء مع تبني أفكار تقوم على محاربة الاحتكار ، وتغليظ عقوبات الغش والاستغلال ,كما أن عليه أن يغير منهجا خاطئا يقوم به البنك المركزي حاليا وهو دعم الجنيه المصري , واتجاه البنوك إلي الاستثمار في أذون الخزينة بدلا من منحها للمستثمرين لبناء مشاريع جديدة , ويتبني حزب الحرية والعدالة مشروعا لتعديل قانون البنوك ، الذي قدمه قبل اسبوع من حل مجلس الشعب ويركز القانون علي تعزيز استقلاليه البنك المركزي وتحصين المحافظ ونائبيه من الاقاله والعزل ، وإشرافه علي جميع البنوك العامله في مصر ويذهب الكثير من المحللين الاقتصاديين إلي أن الموازنة الحالية التي أعدتها حكومة الجنزوري لا يمكن للرئيس مرسي أن يحقق من خلالها أهداف برنامجه التنموية والتي تضمن مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي خلال خمس سنوات , بمعدل 7% سنويا .
إن الرئيس محمد مرسي وحركة الإخوان المسلمين , ممثلة في حزب الحرية والعدالة الجناح السياسي للحركة , أمام فترة ولاية رئاسية تاريخية حاسمة لها ما بعدها من حيث العمل السياسي , وما سينتج عن ذلك من تداعيات ,خسارة ومكسبا , خصوصا في ظل خزان انتخابي يصل حجمه 50 مليون ناخب يمتاز بالتقلب والمزاجية ,حيث لم يصوت منه سوي 26 مليون ناخب ووصل حجم المقاطعة 24 مليون ناخب , وهو رقم سيعمل خصوم الإخوان علي جذب أكبر قدر منه ,في سبيل الوصول للسلطة , وعلي الرئيس محمد مرسي , وحزب الحرية والعدالة تحقيق أكبر قدر من المكاسب علي الصعيد الاقتصادي , والسياسي , والاجتماعي , وكسب ثقة الشعب , واسترجاع وكسب أصوات المتخوفين والمتشككين من المقاطعين والخصوم , وإلا فإن الحركة قد تجد نفسها خارج السلطة , في الاستحقاقات الرئاسية القادمة فلن تستطيع بمنتسبيها , والمنتمين لها , فقط , تحقيق الفوز في جميع الظروف , فقد تحدد من الانتخابات الاخيرة حجم كل كتلة , وخزانها الانتخابي , وعلي الرئيس محمد مرسي وحزب الحرية والعدالة , الاختيار بين الجنة , والنار , فإما إنجاز يضمن الفوز والاستمرار , و إما خسارة تلقي بالرئيس والحزب خارج السلطة من جديد لممارسة دور المعارضة , في دورة سياسية جديدة , فعلي رأي نزار قباني ( لا توجد منطقة وسطي مابين الجنة والنار ).
Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا
No comments:
Post a Comment