تجسد المذرذرة أحسن تجسيد معاناة موريتانيا وتحتفظ بأنماط تراثية من الحياة البشرية المهددة بالانقراض.. لا تزال المذرذرة تعيش على نمط قديم من الحياة اعتادته منذ طفولتها في بدايات القرن المنصرم، ولا يزال السفر منها إلى العاصمة انواكشوط التي لا تبعد سوى مائة وخمسين كلمترا عملية شاقة لها طقوسها الغريبة والعجيبة..
الورقة الأولى..
للسفر نحو العاصمة، أنت مجبر على حجز مقعد لدى أحد الناقلين الذين يغادرون المدينة مع بكور الطير أربعة وعشرين ساعة قبل موعد السفر والحصول على تعهد منه بالمرور كي تضمن عدم التخلف عن موعد انطلاق السيارات التي تغادر كل صباح قبل طلوع الشمس!!
عادة ما يكون هذا السفر من دون مدة محددة وأحيانا من دون هدف.. الناس هنا، خاصة الشباب، اعتادوا السفر لكسر روتين الحياة حتى أصبح جزءا من أسلوب العيش، يسافرون ليعودوا ويعودون ليسافروا من جديد..
يحدث أن تسأل أحدهم ما ذا يعمل فلان؟؟! فيجيبك متهكما، لا شيء، مسافر بين المذرذرة وانواكشوط..! وعلى وقع سفر فلان وعلان نمت في السنين الأخيرة طبقة من الناقلين الشباب ملاك المرسيدس ١٩٠ تضايقَ منها شيوخ المهنة أصحاب اللاندكروزر بادئ الأمر قبل أن يعرف الجميع كيف يتعايش بسلام ووئام.. تكفَّل الشباب بنقل الأشخاص واختص شيوخ المهنة بنقل البضائع والحيوانات بعد أن كان الجميع يسافر بكل روح رياضية في مؤخرة اللاندكروزر!! تتسلل خيوط الفجر.. يصيح ديك أو اثنان ويغادر شيخ منهك القوى مسكنه باتجاه المسجد يداعب سبحته من دون أن يفتح فاه بكلمة، لكأنما يحتفظ بأوراده في جوفه تبركا بها.. في هذه اللحظات يتثائب ناقل متعب لم تسعفه ساعات نومه الطويلة في التخلص من تعب رحلة الأمس، فيدير محرد سيارته ويأخذ نفسا عميقا من سيجارته عسى الذاكرة تسعفه بأسماء ومنازل المسافرين الذين حجزوا معه البارحة!! لا يستغرق الأمر وقتا طويلا فلكل ناقل زبنائه الخاصون ممن أدمنوا السفر معه وأدمن هو قرع بيوتهم في الصباح والمرور على منازلهم في انواكشوط وقت الهجيرة خلال رحلة العودة.
يملأ هدير المحركات الفضاء فتستيقظ المدينة للحظة ثم تواصل نومها فقد سهرت اليل كله إلا ساعة أو اثنتين.. كل السيارات هنا لها هدير كزمزمة الرعد، فالسيارة تصل ملكيتها للناقل في المذرذرة بعد أن تكون قد جابت شوارع ميلانو أو برشلونة عقدا من الزمن فالتقطها مهاجر مغربي أمَّن أوراق الإقامة بإيطاليا ففكر بزيارة الأهل في مدينة خريبگة حيث باع سيارة المرسيدس خاصته في نهاية عطلته لتاجر موريتاني أدخلها لنواكشوط فأقامت في برصه وجابت شوارعه سنين قبل أن يفكر شاب ملَّ شرب الشاي آخر اليل وذَرْع شوارع المذرذرة أوله في امتهان النقل فاشتراها مفتتحا حياة مهنية يبدأها في الصباح بالضغط على منبه السيارة لإيقاظ زبنائه!!
ومع الضغط على بوق السيارة يكون عليك موادعة أحلام النوم والاستعداد لكابوس السفر من المذرذرة إلى انواكشوط.. سفر يمكنك أن تستشف من نظرات السائق التي تعاتبك على التأخر وشكل السيارة أنه سيكون قطعة من العذاب، لكنها قطعة خفيفة وممتعة بأي حال..! تغمغم تحية ناعسة لا تهتم إن كان الآخرون قد سمعوها أو ردوها بتحية أخرى وتلقي بنفسك في جوف السيارة.. لم يحن الوقت بعد لتبادل أطراف الحديث فالناس هنا لا يتكلمون في الصباح..
عبثا تحاول الاحتفاظ برغبتك في النوم فيمنعك من ذلك ضيق المكان.. أنت سادس سبعة في سيارة قدر لها الألمان يوم صنعوها بمدينة شتوتغارت في سبعينيات أو ثمانينيات القرن المنصرم أن تتسع لأربعة أشخاص فقط، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين!!
تودع المدينة وشوارعها لا تزال خالية وحوانيتها مقفلة باستثناء واحد أو اثنين يغتنمان كسل البعض واحتساء البعض الآخر لشاي الصباح في منازلهم.. تشيِّعك نسوة من المدينة يحاولن جاهدات إصلاح ما أفسدن أيام الشباب من حالهن، والتخلص من سكريات لم يعد الإنسولين قادرا على نقلها بعدما قام بالأمر بصفة مكثفة عقودا من الزمن!!
رويدا رويدا تختفي المدينة وراءك فتبدأ السيارة في الطيران.. أهلا بك على متن الخطوط الجوية للمذرذرة.. السيارة تطير على ارتفاع منخفض نسبيا يجنبها الارتطام بالحفر المتناثرة على الطريق المحاري ولا وجود لأحزمة الأمان.. الملاح يركز كامل جهده البدني والذهني على الدواسة كأنما يتنازعها مع عفريت، وإطارات السيارة تصب عليها جام غضبها على قطع المحار أسفل منك.. تنظر من حولك فتتراءى لك المحارات وهي تحلق في السماء كفراشات بيض فتردد مع ‘الطاهر وطار’ “يا خافي الألطاف نجنا مما نخاف”. مع اعتدال السيارة في الطيران تحاول الاستواء في جلستك بقدر ما يسمح لك به حجم مرافقيك في السفر، محاولا قتل الرحلة بمشاهدة القرى المتناثرة بعشوائية على قارعة الطريق..
هنا ضيعة المراد.. وهنا الدار البيضاء أحد أكبر التجمعات السكنية القريبة من المذرذرة وأقدمها، وذالك منعرج ابير التورس.. ينحنح السائق الملاح وينظر من خلفه ليطمئن على عدم وجود من هم أكبر منه سنا فيشعل سيجارته ويبدأ في ضبط الراديو على موسيقى راقصة تتمايل معها السيارة ذات الشمال وذات اليمين وتواصل مخر عباب المحار مخلفة وراءها موجة غبار عاتية يحسبها الناظر من بعيد أثرا لمعركة حامية الوطيس، تبدو انهكارة فاحسي ارحاحلة فالملزم.. يحاول أحد المسافرين كسر الصمت المميت الذي تعيشه السيارة فيتمتم كلمات عن رداءة الطريق.. يقوم السائق، تأدبا مع المتحدث، بخفض الموسيقى المنبعثة من الراديو، فيجيب آخر بأنه سمع عن قرب البدء في تنفيذها حسب ما حدثه مسؤول كبير.. ينفتح باب الحديث والنقاش على مصراعيه حول الوعود المتكررة ويتشعب الحديث إلى أداء الحكومة وخطة أمل ٢٠١٢ والقحط والمعارضة والثورة وسوريا، حينها تعقب المسافرة الوحيدة في السيارة “احن بعد اندورو الا العافية”.. يكون السائق غائبا عن النقاش لا هم له إلا البقاء في المقدمة حتى يتفادى غبار الطريق وأتربته التي ستحجب عليه الرؤية إن هو ترك السيارة الآتية من الخلف تتجاوزه.. تواصل السيارة الطيران فتقترب تگند وتتوالى القرى ولافتاتها القاتمة.. احسي سيدي، باميرة…
وهاهي تگند تتراءى من بعيد مبشرة بانتهاء رحلة الطيران والعودة إلى الأرض فتحث السيارة خطاها كأنماتخاف أن تهرب تگند من أمامها.. وها هي أخيرا تقف قيد أنملة من الطريق المعبد فيطقطق السائق أصابعه في انتظار أن تفسح السيارات القادمة من روصو والمتجهة إليه المجال فتأكل قلبك الغيرة من تلك السيارات ومن أهلها الذين أسعفتهم سبعينات القرن الماضي بطريق معبد يصل مدينتهم بعاصمة بلدهم!!
يتجه السائق إلى محل إصلاح إطارات فيملأ الإطارات هواء بعد أن كان خفف حملها بالأمس في نفس المكان وتنزل أنت تتحسس أطرافك السفلى لتتأكد أنها لا زالت قادرة على القيام بوظائفها التقليدية من مشي وركل للكرة، وتتبِع غبار الطريق الذي ملأ رئتيك بنفخات دخان كبيرة وتعود لتحشر نفسك حيث كنت..
تودع تگند شاكرا لها ذلك الشريط الأسود الشاحب الرقيق الذي يمتد منها إلى انواكشوط، فيقتحم النوم عينيك رغم أنف المكان الضيق والجلسة غير المريحة ويحرمك الاستمتاع برحلة تبدو بعد سابقتها في قمة الراحة كما لو كانت سفرا على الدرجة الأولى للخطوط الفرنسية!!
تغوص في أحلام لذيذة تتطابق حد التماثل مع ما كنت تتخيله أثناء اليقظة!! تحلم بك وقد انطلقت من المذرذرة على متن قطار سريع تجلس على مقعد وثير.. تحتسي قهوة ‘كابوتشينو’ وتقرأ رواية الخيميائي ل’باولو كويلهو’ وماهي إلا نصف ساعة فإذا بالنداء على المسافرين المتوجهين إلى محطة ‘كارفور’ أن انزلوا لتضم كتابك وتنزل مع المسافرين في طابور يسير بانتظام وهدوء..
وأنت في قمة الاستمتاع بهذا الحلم البديع، يقطعه عليك صوت مألوف آت من الخلف يقول “إيـــه.. أصل ارگد افلان!!” فيجيبه آخر “يخلع گاع، الا أم لعناتر بيه ارگاد”..
ترفع وجهك الذي كان ساجدا على منكب رفيقك المسافر بجنبك وتحاول أن تتصنع ابتسامة لا تطاوعك عليها عضلات وجهك.. تفرك عينيك جيدا فيترآى لك تجمع سكني ما هو بالقرية ولا بالمدينة لا يرى عليه أثر الحضارة ما عرفت البشرية شبيها به من قبل..
أهلا بكم في انواكشوط: شرطي مرور منهك جراء السهر يرتدي بزة عسكرية داكنة اللون كما لو كان على جبهة القتال.. حمار هزيل يجر عربة تفوح منها أنتن رائحة في الدنيا، جثة قط على الطريق.. عمال متعبون يشيرون بأيديهم إلى الأسفل وموظفون يرتدون بدلات خلقة يرفعون أيديهم ويرسمون دائرة في الهواء..
تضيع السيارة وسط الزحام…
Filed under: موريتانيا, أخبار Tagged: موريتانيا
No comments:
Post a Comment