Tuesday 6 November 2012

مذكرات ذ. إشدو: محمذن بن باباه معه في الأسر!/7 | ‫#موريتانيا أخبار


الثلاثاء 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012










يوم الخميس 17 /12/ 1998 بزغت شمس يوم جديد، في عمره، وأفلت دون أن يرى سناها.. كان يومه الأول في الأسر.. ظل رهين محبسه القذر!


في الصباح جاؤوا بخبز وزبدة وشاي. رد الجميع إلى حراسه، فما من عادته تناول الشاي صباحا. وفي الضحى أرسل إليه أهله رِسْلَ الإبل، فكان نعم الرسول.


الأستاذ محمذن بن باباه معه في الأسر! كاد يقتحم عليه المرحاض الوحيد في غفلة من حراسهما.


يروي محضر الشرطة بتاريخ 16/ 12/ 1998 أن الأستاذ محمذن بن باباه اعتقل في الساعة السابعة والنصف من مساء الأربعاء 16 /12 /1998، وحقق معه في نفس الليلة.


الأستاذ محمذن بن باباه رائد وطني وقومي.. ساهم في وضع اللبنات الأولى للصرح الموريتاني الحديث، ولعب دورا بارزا في “عودة الروح” وإنجاز التعريب والإصلاح الوطني.


لم يتقلد ذلك الرائد منصبا سياسيا، في بداية مساره، رغم قربه من الرئيس المختار بن داداه، واقتصر على شغل أدوار فنية بحتة تفتح آفاقا يعسر ولوجها على السياسيين. عاد إلى البلاد، في بداية الستينيات، حاملا مؤهلات أكاديمية عليا في الآداب الغربية. ورغم ذلك، أبى إلا أن يدرّس اللغة العربية في ثانوية نواكشوط. تلك المؤسسة التي قادت زحف التعريب، ولعبت، يومئذ بجدارة، دور الجامعة في الحياة الثقافية والسياسية الموريتانية.


زار الرئيس المختار بن داداه ثانوية نواكشوط، فانبرى له المرحوم سيدي محمد ولد سميدع، في كوكبة من خيرة شبابها (حبيب الله بن عبدو، ممد بن أحمد، يحي بن عمر، سيد أحمد بن ابنيجاره، إبراهيم بن ابيهي.. الخ) يناشده ترسيم اللغة العربية! جرى الحديث على كل لسان! كان الأستاذ باباه يومئذ أستاذا في تلك الثانوية قبل أن يصبح مديرها، وكان كهفا يؤوي صانعي إرهاصات الستينيات المجنونة رغم اختلاف مشاربهم الفكرية وجذورهم الاجتماعية.


وفي تلك السنة – أو التي تليها- كلّف بإلقاء خطاب هيئة التدريس، بوصفه أصغر المنتسبين إليها. ناقش الخطاب قضية الهوية، وخيار التعريب، وحتميته. لم يرق مشروع الخطاب للطاقم الفرنسي المسيطر ومن يتولونه. ضغطت وزارة التعليم في اتجاه “تهذيب” الخطاب. وزير التعليم يومها السيد بحام بن محمد الأغظف. لم يستجب الأستاذ. أقحمت رئاسة الجمهورية في الموضوع. أمرت بترك الأستاذ يلقى خطابا كما يشاء. انسحب السفير الفرنسي مغاضبا من الحفل.. تبعه حواريوه. أشار سعادته بحبس الفتى الراغب عن آلهة الغرب! رد الرئيس بلباقة بأن ما عبر عنه ذلك الأستاذ هو ما يختلج بالضبط في ذهن كل مواطن.


في آخر تعديل وزاري أجراه الرئيس المختار بن داداه نقله بموجبه من وزارة التعليم إلى وزارة الدفاع لمعالجة الفساد في الجيش، حدثه عن تفاصيل ردود الفعل على خطابه آنذاك. كانت قد انصرمت على الحادثة 15 سنة. لم يشترط وزير الحرب الجديد، لقبول منصبه، سوى الحفاظ على مكاسب الإصلاح التربوي الذي حققه.


رد الرئيس مطمئنا: “الإصلاح التربوي خيار لا رجعة فيه أبدا”.


دقت ساعة إصلاح نظام الاستقلال تحت ضغط الحركة الشعبية العارمة، في بداية السبعينيات، فدخل الأستاذ باباه وجماعته “التكنوقراط” الحكومة قاطفين ثمار كفاح حركة الكادحين. راجعوا الاتفاقيات الاستعمارية مع فرنسا، وأنشؤوا العملة الوطنية. لم يرض ذلك غرور الكادحين فاعتبروه مجرد مناورة استعمارية وحاربوه ثلاث سنوات متتالية متشبثين بمطالبهم حول الديموقراطية والتعريب وتأميم الشركات الاستعمارية!


.. وبذلك، أصبح الأستاذ محمذن بن باباه جزءا من النظام “الجديد”. تقلد وزارات عدة كالتعليم والدفاع. ترك بصماته الطيبة في كل مكان مر به. كان من حواريي الرئيس المختار ولد داداه ومريدي نظرياته في إدارة وتصريف الشأن العام، وإن كان يختلف معه أحيانا. اعتقل مرارا من طرف الجيش المنقلب وكاد يقضي نحبه في سجن قلعة ولاته. آمن وصدّق بالديمقراطية فأسس حزب اتحاد القوى الديمقراطية الذي كان أمينه العام قبل أن ينيخ بساحته الرئيس أحمد بن داداه. اختلف الرجلان فترة من الوقت، ثم ما لبثا أن التقيا من جديد في درب الوطن.


.. و”الآن هنا!”


قصف العراق مازال متواصلا حسبما سربه إليه بعض حراسه. فالقراءة والاستماع إلى الراديو يدخلان في حكم المحظور.


كان اليوم آخر أيام المداومة، فاستمرت الحركة أمام الخزينة العمومية وفي مطعم الودادي. رصدها من ثقب في الجدار يشبه النافذة.. لم ير أحدا يعرفه، ولم يسمع شيئا مهما. ومع ذلك وجد فيما يقوم به متعة. ربما لأنه تحد لإرادة السجان. قارن نفسه في هذا الوضع بالموتى – في معتقدنا- يرون ويسمعون.. ولكنهم رهائن رموسهم! ترى هل تجتاحهم الذكريات، ويحلمون أيضا؟


في الظهيرة، دعوه لتوقيع تصريحه. اختلف معهم بسبب تحريف جرى في أحد أجوبته. امتنع عن التوقيع حتى يتم إصلاح الخطأ الذي كان كالآتي: في جواب على سؤال قال: “إني آسف كل الأسف لعدم وجود ما يبرر اقتيادي وتقييد حريتي سوى الشائعات.. أي “قيل لنا إنك قلت”، في بلد يتبنى حقوق الإنسان والديمقراطية…”. بينما ورد في محضر الاستجواب الذي قدموه له ما يلي: “إني آسف كل الأسف لوجود ما يبرر اقتيادي وتقييد حريتي بسبب الشائعات أي قيل لنا إنك قلت، في بلد يتبنى حقوق الإنسان والديمقراطية…”.


هل كان ذلك مقصودا، أم مجرد سوء فهم؟ تجدر اليقظة في مثل هذه المواقف!


بعد أخذ ورد، أصلحوا الخطأ، فوقع لهم محضرا لا يفيدهم كثيرا!


وللتاريخ، فإن الشرطة كانت تحوز “دليلا” ضده تمثل في شريط سجله أهل دار مشهورة في مدينة نواذيبو ربطته بهم رابطة صداقته بصهرهم الخبير، فاستدرجوه، وأكرموه، وفتحوا ملف العلاقات مع إسرائيل وحكاية دفن النفايات الإسرائيلية في موريتانيا، وكان ملف الساعة، وسجلوا كل أقواله وزيادة، وسلموه لأسيادهم، وذلك أمر عادي هذه الأيام!


الرئيس أحمد بن داداه معه في الأسر أيضا! سمع صوته يجادل الشرطة وهو يمر من أمام زنزانته. دفع الباب فجأة بقوة. سد الحارس باب الزنزانة، من الخارج، بجسمه الضخم.. انفتح الباب قليلا ثم انغلق. رأى من خلال الفتحة نصف وجه الضيف الآخر! اعتقل الرئيس أحمد بن داداه على الساعة السابعة والنصف من مساء يوم 16 /12 /1998 حسب محضر الشرطة، ووجهت إليه نفس التهمة الآنف شرحها، وتم البحث معه نفس الليلة. لكنه رفض إعطاء هويته، ورفض الجواب على جميع أسئلة المحقق!


في المساء أرجعوا إليه الكتابين المصادرين. أحضروا لمعاينته طبيبا عسكريا يدعى يعقوب. علم فيما بعد أن سبب مجيء الطبيب كان حالة الرئيس أحمد الصحية الصعبة التي تدهورت بسبب نوبة خطيرة أصابته، لعل مردها إلى المواد الغريبة المستخدمة في طلاء جدران الزنزانات الجديد!


يبدو أن الأستاذ باباه بنى “قبة” تحميه من لسع البعوض. استنتج ذلك من دق المسامير في حائط الزنزانة المجاورة. الأستاذ باباه في الزنزانة التي تليه من الشمال، والرئيس أحمد في تلك التي تليه جنوبا. وجحره ساندويتش بين الزنزانتين. حولوا أحمد – بطلب منه- إلى غرفة أكثر هدوءا تواجه مكتب المفوض.


قرأ كثيرا، ونام نوما طيبا، رغم الهم، والبعوض، ورائحة الطلاء الكريهة، والخطى الحديدية الدائبة.


في الحلقة القادمة: الجــلاء


عودة للصفحة الرئيسية




المصدر




Filed under: موريتانيا Tagged: موريتانيا

No comments:

Post a Comment